شعبيات

شعبيات (http://www.sh3byat.com/vb//index.php)
-   ذاكرة العرب (http://www.sh3byat.com/vb//forumdisplay.php?f=96)
-   -   الطريق إلى دوشنبه .! (http://www.sh3byat.com/vb//showthread.php?t=20909)

يعرُب 23-06-2012 14:17

الطريق إلى دوشنبه .!
 

هنا بعض المدن يجب أن لا تدخلها إلا براً ، وإن خالفت هذه القاعدة وأتيتها من الجو ، سوف تجد نفسك تائه غريب ، لن تعرف من أين تبدأ فيها ولا أين تنتهي .. هي مدن ملعونة من السماء .


http://up3.m5zn.com/9bjndthcm6y53q1w.../7k6zbzs63.jpg


وعلى بوابات المدينة ..
وقف حارس الفضيلة ، يخبرني عن بنات الثلج ، التي تأتي من جبال الشمال ، عارية إلا من البياض تُعاشر من يدخل المدينة عند بزوغ الفجر ، فانتظرت الفجر ، لكن أسوار دوشنبه الجنوبية ، لا تعانق إلا الفجر الكاذب ، فزحفنا نحو الشمال ، هناك تتذوق رائحة الثلج ، في ممرات الشيطان ، التي تحيط بها جبال عالية يكسوها البياض تنظر إلى كل مُرافقيك وتتأمل النظر ، فتظن أنهم رجال يمشون بأكفانهم ، بُعثوا كي يرافقوك في رحلتك حتى عتبات المدينة ، لكنهم لا يدخلونها إلا زاحفين .

وحين تنظر إلى بوابتها وهي تُغلق مع أول خيط للغروب تتذكر قوله تعالى " فضرب بينهم بسور له باب " حتى سألت نفسي هل بنات الثلج يستحققن أن أنتظر في هذا العذاب حتى أول الفجر ؟
إلا أن مرافقي أخبرني أنهن يرحلن نحو الجنوب ، ولا يدخلن المدينة من هذه البوابة ، فأكلت حسرتي علها تمنحني دفء ، يقيني صقيع ليلة أخرى أقضيها خلف بوابات المدينة .
.
.
في الصبح سوف ندخلها ..






يعرُب 23-06-2012 14:21

رد : الطريق إلى دوشنبه .!
 




1
طلع الفجر وكنت أول الواقفين أمام بوابة المدينة ، حصلت على توصية من مرشدي حول ماذا يعني اسم " دوشنبه " وبالفعل حدث أن سألني أحد الحرس عن ذلك ، أجبته أن ذلك يعني الاثنين ، وحينما اجتزنا البوابة وجدت أن المساحة أمامي مجرد فضاء واسع لا أرى أي مباني ، أخذت دليل من خلف الأسوار ، أخبرني عن ساعتين نحتاج حتى نصل إلى العاصمة الطاجيكية ، تناولت الإفطار في قرية صغيرة ، اسمها " برني " ، يجيدون فيها صنع الشاي ، هي صغيرة مجموعة بيوت من الطين والصفيح ، تمتد على الشارع العام ، سالت دليلي عن مقبرة هذه القرية ، فأرشدني لها لا أعلم لماذا رغبت في زيارتها ؟ ، عدد قليل من القبور بينها قبة خضراء ، اعتقد أنها أخذت دخل سنة كامل من أهل القرية ، وعلى طرف القرية باتجاه العاصمة توقف دليلي وقدم مبلغ لسيدة عجوز تجلس على عتبة صغيرة أمام منزلها ، لم أفهم منه إلا كلمة " عربو " توقعت أنه يقصدني ، لا تحمل الذاكرة من ذلك المكان إلا " عربو " كنت أتمنى أن أعرف ماذا يدور داخل تلك السيدة عن تلك الكلمة وبماذا تحدث نفسها عن العرب .

انطلقنا نحو " دوشنبه " حتى وصلنا ضواحيها ، طلبت منه أن نستأجر شقة أقيم فيها لم نجد إلا غرفة جيدة عند شخص كبير في السن اسمه " عليلو " تقع في الطابق الثاني ، قلت لدليلي لن أدخل المدينة ألا بليل ، وقل أن ذلك بدعة أو خرافة المهم أن الليل يخفي بؤس المدن وأسرارها ، وقبيل الغروب بساعة ، كنت أجلس مع عليلو على كرسيين تتوجه أنظارنا للمدينة ، أغلب حديثنا بالإشارة ، إلا أن عيونه كانت تتحدث بالكثير عن تلك المدينة مما جعلني اشتم رائحة الدم مع نسمات قادمة منها .

ما أجمل أن تشاهد الرياح وهي تداعب العشب وكأنها أمواج بحر ، قدِمت بنته ووضعت ثالث الكراسي وجلست ، تترجم ما يحدّثنا به والدها ، أخبرتني عن المذبحة لكني لم أهتم للتفاصيل ، كنت اسألها عن حالها ، قالت أنها تدرس في موسكو " علوم سياسية " ، وهي هنا تقضي إجازتها مع العائلة .

ما إن بدأت قوافل الغروب تهاجم آخر الخيوط من الشمس المنسحبة حتى رأيت سيارة رفيقي قادمة ، رغم قدم موديلها إلا أنك تشعر بأمان داخلها ، يتحدث عنها وكأنها عروسه التي لا يفارقها ، ما أجمل أن تجد من يجعلك تنظر للأشياء بمتعة ، من حديثه عنها جعلني في عشق لها .

2
دخلت المدينة من جهة الحي الروماني ما إن وصلت عند أول ظهور للبنايات طلبت من السائق التوقف ، حملت حقيبتي على ظهري وطلبت منه العودة من حيث أتى ، سرت في الحي الروماني وهو عبارة عن شارع واحد لم اعتقد أن له نهاية ، على جانبيه مجموعة من البنايات الحديثة ، الإضاءة في الشارع خافتة ، وحينما تنظر للمصابيح المعلقة على الأعمدة المتراصة على طول الطريق ، تكتشف عذابات تلك المدينة ، دائما تلك الإضاءة الخافتة تُظهر لك حال المدينة في صباحاتها ، قضيت الليل أتجول في المدينة ، أتذوقها مع نسمات استنشقها ببط ، أبحث عن أسرارها المخبأة ، أعشق أن اكتشفها بنفسي قبل أن يكشفها نور الصباح .

سكنت في أحد البنايات التي تشرف على ساحة يتجمع فيها الجمهور من بعد العصر حتى وقت ليس متأخرا ، لاشيء يعكر صفو تلك التجمعات غير بعض المضايقات الخفيفة التي يعملها بعض الشباب ضد الفتيات من لابسات الجينز الذي يفلق المؤخرة إلي نصفين ، تلك المناظر تذكرني بصديق لنا انهار في العاصمة دمشق ، لم يكتفي بلذة مشاهدة جمال الأنثى ، بل أراد أن يتجاوز تلك اللذة إلى ما هو أبعد من المشاهدة ، غلبته شهوته

في كل صباح أحمل طفاية سجائري وهي تشبه علبة النيدو الصغيرة إلى أعلى نقطة في البناية وأنظر إلى الشمال حيث الجبال البيضاء ، من لم يشاهد الثلج على طبيعته لن يعرف كيف هي حالي وأنا أراقب البعيد حيث تلتقي السماء بتلك الجبال المكسوة بقطعة قماش من الحرير الأبيض مُلقاة بطريقة غير مرتبة .
3
في أحد المطاعم تقدم نحوي شاب أربعيني طلب منى أن أشاركه الطعام مع عائلته ، كان أحد طلبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ، على درجة كبيرة من الأخلاق والالتزام ، كان يتحدث معي بصوت مرتفع يظهر للآخرين إجادته للغة العربية ، زرته في بيته ، في منطقة اسمها " كلوش " هكذا اعتقد مع الذاكرة ، مجموعة من البنايات المتشابه ، أتذكرها حينما أزور أحد الأصدقاء في مشروع الأمير فواز بجدة هناك بين البنايات اشعر أني في بلد اشتراكي . برغم بساطة شقة أبو حبيبة الطاجيكي إلا أن لمسة الجمال موجودة في كل ركن وزاوية ، وكل قطعة أثاث في ذلك المنزل الصغير ، يجمّلون الأشياء رغم بساطتها .

زرته في ورشته الصغير في السوق القديم بالحي الشعبي في الطرف الجنوبي من العاصمة ، كان يعمل في النقش على الذهب ، أدمنت زيارته كل مساء ، بجوار محله ، فتاة تبيع الشاي مع قطعة خبز بداخلها لحم مفروم لذيذة ، ليس قطعة الخبز بل الفتاة ، هي في الرابعة عشر تقريبا ، كنت اذهب للشراء منها كل يوم لأنها تذكرني بفتاه اسمها " طيبة " ، أحمل معها ذكريات سبع سنين ، أحيانا وأنا اشتري منها أحدثها بالعربي وأنتظر الأمل أن تحدثني بنفس لغتي ، امنّي نفسي بذلك ، ما هي إلا لحظات حتى تنهار تلك الأماني ، وتبقى روح طيبة بداخلها .

4
أعشق السير كثيراً في المدن التي أزورها ، سرت داخل دوشنبه حتى أرهقت شوارعها ، وأحب أن تجول في الأحياء الشعبية ، وأكره زيارة المتاحف ، من الأشياء التي لفتت انتباهي ، دورات المياه العامة ، والتي تدفع مقابل أن تقضي حاجتك مبلغ من المال ، حتى ظننت أن نصف أهل البلد يستثمرون نقودهم في تلك الحمامات .

انتقلت للسكن في الحي الشعبي ، غرفة في منزل لسيدة اسمها " فاطمة دلّو " تحدثني دائما عن أصولها العربية وأنها من الأشراف . طلبت منها وجبة شعبية ، وجدت أن أغلب وجباتهم تعتمد على العجين واللحم المفروم ، يكثرون من شرب الشاي الأخضر .

نجتمع في ساحة مجمع فاطمة ، تلك الساحة التي تشرف عليها جميع الغرف بالمجمع الصغير ، سُكانها خليط ، يجمعهم سهرات صاحبة المنزل اليومية ، والتي تبدأ من بعد العاشرة ، عشقت تلك الجلسات ، كانت ثلاث فقط ، إلا أني مازلت أحمل ذكراها بداخلي ولا تفارقني الضحكات المختلطة ببكاء المتعة .

5
خرجت منها بصبح أسير وأحمل حقيبتي على ظهري وبداخلي الكثير من ذكريات لمدينة ، لم أمنحها الكثير ومنحتي روح " طيبة " ، مجموعة ليالي ونهارات قضيتها بين ساحاتها وأزقتها ، علمتني تلك المدينة أنك تستطيع أن تشاهدها داخل عيون صبيّة ، نظري لا يفارق أفقها البعيد حيث الشمس والثلج .

على طرف المدينة أخذت سيارة وقضيت بقية النهار عند " عليلو " وابنته التي أخذتني نحو بوابة المدينة بسيارتها ، والدها وأثناء توديعه تمتم ببعض الكلمات وحينما سألتها عن ذلك قالت أنه يقول " أنها لن تمنحك أكثر من توصيلة " وضحكت .

لحظات قضيتها معها أمام البوابة وهي تحدثني عن وطنها ، قوم يجيدون حب الوطن حتى وإن كان الوطن لا يمنحهم إلا القليل وربما في بعض الأحيان يأخذ منهم الكثير ، وقبل الغروب ترجلت متوجها نحو البوابة الشمالية مرة أخرى .

أغمض عيني في كل مرة وأنا أكتب هذه الأسطر ، فأجد نفسي تطير نحو ساحة الخُلد ، هناك قابلت سيدة ، أخبرتني أنها من بنات الثلج وأنها تحمل طفلي بداخلها .






نورة العجمي 25-06-2012 01:22

رد : الطريق إلى دوشنبه .!
 
مجموعة أفكار تنبع من مفكر وكاتب نخبوي مستوى رفيع
كم تبهرنا يايعرب !
ود و ورد :rose:

علي التركي 25-06-2012 11:55

رد : الطريق إلى دوشنبه .!
 
يعرب

نقرأك بلهفة
وننتهي نبحث عن بقايا قلمك
لا أدري دائماً أحس أن لديك بقية
عند نهاية كل نص

تقديري وإعجابي :rose:

منتهى القريش 26-06-2012 10:21

رد : الطريق إلى دوشنبه .!
 
يعرب

ومن يمتلك فكراً كـ فكرك .. يجعلنا ننتظر ما تيسر منه بلهفة ..

شكراً لأنك هنا ..

ودي ووردي ..


الوقت المعتمد في المنتدى بتوقيت جرينتش +4.
الوقت الان » 14:45.

Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع ما يكتب في الموقع يعتبر حقوق محفوظة لموقع شعبيات- شبكة الاقلاع