الموضوع: ذكرى...
مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
قديم 22-11-2005, 10:06   #1
عبدالواحد اليحيائي
كــاتـب
 
الصورة الرمزية الخاصة بـ عبدالواحد اليحيائي
 

ذكرى...

.
.
كانت ترفع رأسها عاليا حابسة لدموعها، حتى لا يقال أنها تبكي..
خَشَيَتْ أن تتهمَ بالجزع..
كانت تتصبّر..

.
.
الحياة مريرة كلها..
فلم تسألني عن أشد المرارات ؟

الموت..
المرض..
فراق الأحبة..
الوحدة..
الخوف..
ربما..

قلت لي مرة: أن أحزاننا تكون بقدر آمالنا.. لعلك كنت تقصد أن خيبة الأمل حزن آخر، ومرارة أخرى، يومها لم أشعر برغبة في الحديث، شُغلتُ بذكرى قديمة بعض الشيء، وها هي تعود مع كلامك عن الحياة حين تكون مرة، هل تطلب حكاية، هل اكتفيت من شقاء الآخرين فجئت تبحث عن الشقاء في قلبي لتحكيه للناس..؟!!

لا بأس، إذن لأحدثك عن طفلة لم تكن كالأطفال – ها أنت تبتسم لأنك تعتقد أن الأطفال سواء، ربما، ولكنهم في قلوب أمهاتهم ليسوا كذلك - ، كنّا في بداياتنا، وكانت طفلتنا الأولى، الطفلة التي لم أنجب بعدها غيرك، كم كانت جميلة، وكم كنتُ فرحة.

سعادة بالغة أن تجدُك وقد شغلتك الحياة بحياة، وشغلتك الأيام بشيء منك، معك، ولك، وبك، تلعب، تضحك، تمرض، تنام، تنهض، تأكل وتشرب مع شيء تحبه وترعاه، ويكبر أمام عينيك ويكبر معه فرحك وأملك ويومك وغدك.

لكنها لم تكن إلا بشرى، والبشائر تزول ليبقى ما بعدها..
لم تبق معي أكثر من أربعة أعوام وأشهر..
وكانت آخر صورها ابتسامة عذبة بصحبة دمية..
مَرِضَت لأيام قلائل وأنا استرحم الله وأرجوه..
ثم ماتت وكان يُراد لي أن استرجع أمره بالصبر.

تخيلْ ذاك القادم من المقابر ليعزي زوجته ثم لا يعرف ما يقول..
وتلك الزوجة التي تبكي بصمت رحيل أمل، وذهول زوج، وفقدان بنت، ثم عليها أن تتصبّر لأن الله شاء ذلك، ولأن لله عصافير في الجنة وشفعاء كما قالت لها إحداهن بعد أن أخذت كل ما يخص الراحلة الصغيرة حتى لا تراه، وحتى لا تتجدد ذكرى يريدون لها أن تموت.

وتصبّرت، وزعمتُ أني نسيتْ.. وشغلتني وأباك الأيام.

بعد زمن كان علي أن أجمع أشياءنا الصغيرة لارتحال جديد: أدوات، ثياب، أوراق، صناديق صغيرة.. حين لمحت تلك الدمية، نعم، لم يروها حين كانوا يقتلون الذكرى.

عادت تلك الابتسامة العذبة..
وبعثت تلك الطفلة فيّ من جديد..
كانت مرارتي أكبر، وكان وجعي أشد..
بكيت كما لم أبك يوم ماتت..
ومرضت كما لم أمرض يوم ذاك.

المرارات كثيرة..
لكن الذكرى المتجددة هي الأكثر ألما.
.
.

عبدالواحد اليحيائي غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس