مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
قديم 18-10-2006, 07:16   #1
كوثر
شموس لا تحدها سماء
 
الصورة الرمزية الخاصة بـ كوثر
 

السيدة التي ترعى عُزلتها في صخر الشاطيء

كوخها الخشبي لا يُعرف له عمر، ولا أحد يعلم كيف انبثقت نبتة الريحان على الساحل المالح، قالت زوجة الصياد الأكبر سناً، هذا كوخٌ ملعون، من يسكن إليه ولو هرباً من عاصفة سيفتح باباً لن يتمكن أحدٌ من إغلاقه وراحت إلى الصمت.
تحدث البحارة العابرون عن مصباحٍ يومض في الليالي المعتمة من زجاج نافذة الكوخ الوحيدة، قالوا في موانئ العالم أن صوت امرأةٍ تغني يرافق صواريهم، حتى أنهم دعوا بعض المهتمين لإصاخة السمع ملياً ليستطيعوا تمييز النغم الأكثر من حزنٍ مالح لليالي الإبحار الطويلة، وقال البعض أن قضاء البحارة كل الصيف في المالح أصابهم جميعاً بمرض الهذيان بطيف امرأة حزينة، العجوز الحكيم قال مُديراً بعض التبغ في فمه الأدرد أن لحزن امرأة ما يحرك الصخر في قلبٍ أحاطه كلل الهجرة المُستمرة وصبخ الحرمان المتتالي.
الفتاة التي زارت الشاطئ في الخريف، لم يتعرف عليها أحد، ولا علم الأهالي من أين أتت، فهم لم يروا عربة تقلها، وليس لملامحها دالة لنسبٍ في المنطقة، أتت بثوبها المُشجر، ثوبٌ لا يصمد لريح البحر ولا يستر تسلقها للصخرة الأم، الصخرة التي بهيئة امرأة ضخمة الحوض، مُعتدلة الصدر، لها شعر ثائر وبشفتها السُفلى أثر ألمٍ عتيق.
في البدء أثارت الفتاة الكثير من التساؤلات، في المكان الذي لا ينادي الغرباء، تبدو الشابة مثاراً لفضول الصغيرات وأحلام الصبية العابثة، مع الوقت نسيها الجميع، اختلطت بتربة الشاطئ ولم تعد مرئية حقاً، كثيرون نسوا أن يحيّوها في المرور، ولم تهتم هي حقاً إلا في الليلة التي قررت فيها أن لا شيء هنا يستحق المكوث، الصوت الحزين لم يصدر عن الكوخ كما أشاعوا، والوميض أيضاً!
سهرت الفتاة شهراً بأكمله لتلاحق القمر القادم وبزوغ النجمة الأولى في التقويم العربي، فقط لتتأكد أنه لم يكن حلماً، فتحت المرأة الصخرية عينيها، أشارت للفتاة، اقتربت من الصخر، ولاحظت الطحلب اللزج عند قدمي التمثال. ثم أن الشفتين تحركتا وأتى الصوت الحزين مُحدثاً إياها:
أنا لا أذكر إسمي، فتحت عيني عدة مرات لأرى من يعبر هنا وهناك، حتى وجدتُ نبضكِ في انتظاري، لم أخيب ظناً لذا قررتُ أن أخبرك بقصةٍ قد لا يصدقها أحد، لذا لا تعتبري تصديق الآخرين في مكانة الأعلى. فقط اسمعي وخذي منها ما ينير لكِ درباً أراه:
كنتُ في الكوخ ذاك أغزل الشباك للصيادين حين لم يكن البحر مالحاً، ولم أكن فتاة لأحد، كنت لي، لا أعرف لي أباً أو أماً، ربما كانت الريح أمي والبحر أبي، منذ الوعي الأول لم أتناول إلا النباتات التي تأتيني طواعية ولم أسأل كثيراً، كأنما كنت أعرف..
وأتى، هكذا فتح الباب في ليلةٍ عاصفة وجلس بقربي، لم نتحدث كثيرا، ثم بدأنا حديثاً لم ينته إلا ببزوغ شمسٍ ما، في كل ليلة أتت كل الدنيا لتسمعنا، قلنا كل ما ورثتموه وقلتموه ولم تعرفوه للآن، ووعدني أن لا يؤلمني أبداً، وصدقته.
في يومٍ لا أعرف تاريخه، وبعد أن أصبحت أعرف أين هو دون أن التفت، وجدت أنني أراه يشرب من بئرٍ أخرى، يومها بدأ طعم ماء البحر يتغير، أصبح مُراً قليلاً ولاذعاً.
بعدها صرخ في وجهي، وكان البحر قد امتلأ تماماً بالملح، فحملت الريحُ الملحَ إلى قدمي، ها هنا حيث كنت أقف وأنتظره، ثم أنني تسمرتُ كل مرة أحزنني فيها بالمزيد من الملح ورحتُ أجتذب الصخور الصغيرة وأختبئ، حتى أنه صرخ بي للمرة الأخيرة قبل أن أقرر أنني لا أريد أن أراه فأغمضت عيني من يومها وامتلأت بي، بصخرٍ وحزن، فزاحم طيفه الحزن في داخلي، رحت أعب من الرمل القاسي وأتجمد وأتكوّن هكذا على مر الزمان..
في يوم لقاءنا أفتح عيني مرة، لعله يعرف، وفي يوم وداعنا أبكي فتهب العاصفة.. لا أنا خرجت عن الصخر ولا هو عرف!
.. هذه كل الحكاية فاذهبي الآن، أخبريهم، فإن كذبوكِ ابتسمي قليلاً وارحلي.

التوقيع:
هو نهر الفردوس.. أو هو اسمي.. أو هو أنا.. كوثر.
أرفلُ في نعمةِ الغفران،
مُحلقةٌ في غيمةِ ود.
كوثر غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس