يلعن...؟
حين الدخول إلى حصة الوطنية، رأيت تجمهر الطلاب على طالبٍ ينشد بعض الأبيات بملامح متذمرةٍ ضاحكة، وبطريقة ينتابها خجل الجرأة المنقبضة. قلت له بعد أن ران السكوت، وبإلحاح ساعدني فيه الطلاب: هيّا أعد ما كنت تنشد، فقال بعد أخذ الأمان:
اسرح مع الجهمه وانا ضايق البال
للمدرسة يا لعن ابو مـن يجيهـا
ان غبت جاني شايبي ماسك عقال
ويقول دايـم ضربتـك تحتريهـا
قبل أن أفكر في تصحيحه، عنّت في داخلي فكرة الكتابة عن ظاهرة اللعن في الشعر الشعبيّ، ومدى تأثيرها على المشاهدين (صغارًا وكبارًا ) خاصةً مع تضخم وسائل التقنية الفضائية في هذا العصر المفتوح. ومن باب نسبة الفضل لأهله؛ كانت هذه المقدمة. اللعن كمصطلح مجرّد، لفظٌ ورادٌ في أكثر فنون الكتابة وأنواعها، وفي تواتره وحضوره المكرس في نماذج شعرية كثيرة على مرّ التاريخ ـ سواءً جاءت بحلّة الفصيح أو النبطي ـ خروجٌ صارخٌ يحتاج التأمل والبحث في حيثيات الحالة التي تستدعى ذلك، والسياق الذي يتوسع ويضيق بحسب الموقف العارض. والذي يظهر لي من استقراء نماذج عدّة في الجانب الفصيح، انحصار أكثر الأسباب نتيجة ضيّق الحال وعذاب الفقر وتقلّب الأيام، أو نتيجة تسلط أسافل الناس وبطشهم وجبروتهم، أو نتيجة ما يتبع ويفيض من انقسامات الأمّة حين الفتن وتعدد المذاهب!
في الجانب الشعبيّ العاميّ، وحين المحاولة في استحضار الذاكرة أو الاستعانة بذاكرة المخلص جوجل.. أراني أجد تضخمًا رهيبًا في مسألة اللعن متبوع الأب والجد (وهذه تكاد تكون حصرية)، في قصائد الغزل (حائط المبكى) التي يصل فيها الشاعر من خلال محاولة التعبير عن صدق الحالة الشعورية إلى مصطلح اللعن. فمنهم من يقتصر على لعنٍ واحدٍ بسيط، ومنهم من يوظف لعنًا متعدد المآرب والغايات، ومنهم من يضحي بقائمة عائلية طويلة، في سبيل حرقة الحب وآلام الوجد والهوى. رصد هذه الفكرة وعرض بعض الأمثلة، ليس من باب المحاكمة الشرعية، أو الاجتهاد في إصدار فتوى توضّح ما هو واضح دينيًا من النهي عن مثل هذا اللفظ وهذا السياق، وإنّما هو تبيان فقر شيطان الشعر حين يسري في عروق القصيدة؛ دونما نموٍ يجعل الأبيات قادرةً على الحركة ولو لخطوات بسيطة! يقول أحدهم - والشواهد أكثر من أن يحاط بها - لحظة حماس الموقف:
من شفتها وحالي يا أبو فهيد كحيان
يلعن أبـو هالحـال وأمـه وجـده
ويقول آخر:
يلعن ابو رجـلٍ يذلـه هـوى بنـت
إذا تخلـى لاجلهـا عـن طبـاعـه
ويقول ثالث:
يلعن ابو منهو يحبك ويبغيك
ويلعن بعد منهو على الحب ينصاك
؛
... والقائمة تطول والأسباب تتعدّد واللعن واحد!