مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
قديم 28-01-2003, 08:51   #1
خالد التميمي
شـاعـر
 

حــبـل الـغـســيـل ..!!


[c]

مساء الخير ...

وددت ان تشاركوني جمال هذا المنقول ...




حـبـل الـغـسـيــل


[/c]
لطالما كانت علاقته بالحبال موثقة، ابتداءا من شد الحبل، مرورا بـ "شبرا... أمرا..." وربما انتهاءا بحبل الغسيل.
تلك البقالة المنبثقة من ملحق المنزل القابع في ناصية الشارع، كانت توفر له كافة متطلبات عيشه، ما بين التاسعه وحتى التاسعه والثلث كل صباح.
جريدة البارحة. كاسة شاي - كانت يوما ما صرحا شامخا لجبنة بوك -. ملعقة يعلوها صدأ. شابورة. سجائر رخيصة.
كما ان ابو هشام كان يستبدل ريالاته بمعدن نقدي، دون سعر فائدة، ليجري اتصاله المعتاد بوالدته من كابينة الهاتف على الشارع العام، كاستكمال لروتينية صباحه.
قبل التاسعة والثلث يكون قد أتم تقليب كامل صفحات الجريدة. كاسة الشاي فارغة الا من الربع. حبات السمسم تطفو على السطح، وكسرات الشابوره تزبد في القاع، يسحق بقدمه اخر سيجاره، ويهم بالانصراف.
على بعد خمسين مترا، يقف بتسمر بجوار عمود الاناره، ويحدق عاليا في الشرفة المطلة بتمعن. يكون الغسيل للتو معصورا ومنشورا بانتظام.
من اليمين لليسار، بيجامة بيضاء لطفلة صغيرة تكسوها اجسام زهرية - تبدو قططا أو ربما دببه -، وثياب بيضاء متباينة الاطوال، وعلى معزل شمغ حمر قانية، بدت اكثر احمرارا وهي مبتله.
في طرف الحبل، نشر مريولين. أحدهما ازرق والاخر كان رصاصيا مع أبة بيضاء.
ظل مشدوها، ملتصقا بعمود الاناره، وهو يجول بناظريه بمحاذاة الحبل.
ابتسامة حائرة، استقرت اخيرا على شفتيه، متوجة رحلة بحث انتهت لما عانقت مقلتيه تنورتها السوداء ; رغم انها ليست المفضلة لديه، فهي تبدو بخصر أضيق في تلك الكحليه.
حبل الغسيل... علاقته اليتيمه بهذه العائلة، بل سبيله الوحيد للقاء الحبيبة المزعومه. المواعيد كلها كانت نهاريه، تحت حضور الشمس، شاهدهما القسري.
تبدو فاتنة اكثر بفساتينها الفرنسيه. لما تتحرر من صرامة الزي الرسمي، تتراءى له باسمة اكثر.
ألوانها كانت انيقه، ناعمه. تنبع من ذوق راق. السماوي كان سيد الالوان على الحبل.
اليوم كانت الغسلة الاولى لكنزتها الحمراء الجديده. تراءت له فيها تشع بياضا، وتشرق نضاره.
زي اخوتها الرياضي غالبا ما كان ازرق. بل دائما كان ازرق، (15) رقم ملصق خلف ظهور الفانيلات.
برغم اصداء النزاع والصراخ الذي يجسده الاخوة الاعداء من داخل الشقه، الا انهم في النهايه كانوا متفقين على شخصية واحده، تمثل لهم الرمز. تلازمه ابتسامه رضا مع تكرار المشهد.
كل خميس يضمر حبل الغسيل مهابة لبدلة عسكرية (كحلية) معلقة فوقه.
مع مزيد من التمحيص، وتغيير زوايا الرؤيا، استكشف كتف البدله، اهتدى الى ان اخوها في سنته الاولى في الكلية الامنيه، الكلية التي حرمه تواضع اسم عائلته من دخولها.
هاجسه يهمس: انها عائلة ذات اسم مرموق.
بعض الاسابيع، تغيب البدله. فيدرك انه معاقب، يمضي عطلته بين اسوار الكلية.
صباح الجمعه مخصص لملابس الرجال، استعدادا للصلاة. ملابس الاب القصيرة. طاقيته الغرباليه. ثوبه ذو التفصيل العتيق، وكومه شمغ وكومة بياض ما بين ملابس داخليه واثواب تخص الاولاد.
جلاليب خليجيه الطراز، زاهيه. نسبها لامها باجتهاد، لما لم يجد لها صاحب، مع مرور الوقت، اصبح متيقنا انها تخصها.
بدت الجلابيات واسعه. تصور الام بدينه، كعمته حصه. بشوشة بافراط، طيبة بافراط. كعمته حصه تماما.
في ثاني العيد، في تمام التاسعه والثلث كان يحتضن عمود الكهرباء، في انتظار الغلة.
المحصول يفوق طموحه.
بين فساتين العيد المائجة بالالوان، كان فستانها الابيض يطل باستفزاز صارخ.
أكتمل مزيج خياله حتى كاد يقسم أنه للتو أبصرها. كانت بعينين نصف مغمضتين تفاديا للشمس.
هكذا أطلت في عميق خيالاته.
عاد لبيته وبدأ يحتفل فعليا بالعيد.
كان لابد ان يزور امه.
تبريكات العيد وفيض الشوق، كانا يلحان عليه باصرار، ليفارق مجبورا حبل غسيله، الى حين.
قرت به عين والدته. كانت سعيدة بامتلاء وجهه، ودوام ابتسامته. ثلاثة ايام قضاها هناك. بقدر جمالها كان طولها.
حبال غسيل كثيره لاحت في الافق، لكنها على الاطلاق لم تكن بذات الجاذبية.
ودّع والدته، بعد أن أسرّ لها انه بات محتاجا فعلا للاستقرار.


تسيره اللهفه ليقف امام الشمس مواجها حبل الغسيل نفسه ، في تمام التاسعه والثلث كان قد اتخذ مكانه.
لكن الحبل كان عاريا ، بلا رفقة.!!
عاد يجر اذيال احباطه،على ان يعود غدا بانتظار غسيل ايام متراكمه.
في الغد، كان انهزامه يتفاقم، والحبل يزداد ارتخاءا وانكسارا ووحدة.
صار الحبل مرتعا لهبوط الغربان التي استقرت هناك بكثافة.
في التاسعه وعشر دقائق، كان يسحب قدميه بتثاقل، ليهوله منظر حبل الغسيل مثقلا بالسواد.
ثياب سود. طرح سود. عباءات سود. سواد كالح يسكن المكان، كانت الملابس تقطر دمعا، تسيل بحده.


يوما بعد آخر، ولا وجود للملابس القصيره، ولا الطاقيه المشخولة، وهي لا زالت تصر على السواد. تنورتها السوداء. بلوزتها السوداء، وبيجامتها السوداء.
انقطع عن زيارة الحبل، لما بات يبثه فيه من كآبه.
أنباء تسري في اوساط الحارة، ان الام باتت تستقبل خطاب ابنتها بجدية اكثر، لتخفف من حمل مسؤليتها.
بث الخبر في داخله رعبا هائلا، ليال فزعه قضاها هربا من الحبل. نظراته مشاحة عنه خشية المواجهة.
بمرور الوقت يزداد الحبل ضعفا، يخشى في اي لحظه ان يستسلم للشد، وينقطع.


ذات خميس.. كان يعانق والدته ليزف لها نبأ هدايته لبنت الحلال، وانه يفضل العجله.
اصطحب امه للرياض، وعلى وجه سرعه كانا يسيران باتجاه تلك الشرفة في الناصية.
كان يلقن والدته انها الكبيره، وغالبا سترتدي تنورة سوداء. لا تفاصيل اكثر.
خطواته تزداد ارتباكا وهو يتخيل غترته منشورة بخيلاء فوق ذاك الحبل، حبل الغسيل بلا شك سيكون له الأولويه فيما يخص اثاث عش زوجيته.


مع اتضاح الرؤيه يخنقه الوجل، توغل ملامحه في الاضطراب ويغرق في وجوم، بودار انهياره تضيق الخناق.
لكنه لازال صامدا. يمسك يد والدته بثبات، يجابه العرق المتسرب بشموخ.
تأمل الشرفه بتمعن، ثم أطبق جفنيه وعاد ليمعن. زاد من حدة نظراته، ومن تعرجات جبينه واطلق زفرة متقطعه.
وزع نظراته في المكان، بات الوجود ضيقا دون الشرفه ونظرات امه.
اصطنع ابتسامه.. والتفت لوالدته، نبرة متهدجه ونظرات كسيرة، اخبرها انه يحتاج وقتا أطول ليكون نفسه، واعتذر لتسرعه في اتخاذ القرار.
ذهول وحيرة مختلطان بشى من حسرة، واشياء من انفعال، يغلفان ملامح والدته.
عاجل رأسها بقبله، وبقلب رضي استكانت ودعت لابنها بالخير.
اكمل خمسين مترا من بعد الحبل، وطلب كوبي شاي وكيس شابورة.


انتهى..

زياد عبد العزيز
السعودية




تحياتي ..


التوقيع:
خالد التميمي غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس