الليل مأساة كل عاشق ، لكني وجدت أن يومي بأكمله مأساتي التي لا تنتهي ، في لحظة حزن تسيطر على جسدي ، أتعجب من جسدي وهو في حالة حزن ، كنت أحسب أن الأرواح والقلب والعقل هم من يحزنون فقط ، في زمن رددت " مهموم عايز أبكي " كما يقول حليم .
أجد الغلبة للشرود الذي يسيطر على كل جزء من تكويني ، لكني لم أكمل بقية كلمات الأغنية والتي تبدأ مرة أخرى بكلمة " حبيتها " فالحزن الذي يتغلغل روحي وجسدي لا يتوقف عند هذا الحد بل يتجاوزه بكثير ، فالشعور بالتيه أمر ليس بذلك الذي يمكن أن تستقر فيه على حل يخرجك منه .
كل الأمور تذهب بي نحو نقطة مكررة في حياتي ، فهي الزاوية التي أنطوي بداخلها ، فأجد آثاراً سابقة ، تدل على أني قد أتيت لها ، فبكيت حتى بللت محملي ، أتحسس وأتلمس بين الجدران ، لعلي وقفت على لحظة فيها ضحكة أو ابتسامة ، غير أني لا أجد منها أي شيء ، فيصيبني اليأس ، وأضع نفسي مع تلك المجموعة من الناس ، في الركن الآخر ، قابعين تحت لوحة ، مكتوب عليها " شرّ البرية " ، اختلطت فيها الأجناس والأصناف ، فلا أعلم إلى أيهم أنتمي ، جلست بجوار عاشق ، يخبر أنها خانته وتزوجت ، وآخر يردد " صبنت الكأس عنّا أم عمرو " ، وراق لي من يقول " الكون دائرة أنا مركزها " ، حاولت أن اشترك معه في ذلك المركز ، لكنه رفض وطردني ، قلت هو خذلان مبين ، وعرق يتصبب من جسد حزين ، ورجفة تصرعني بين حين وآخر ، فيزداد لهيب جسدي ، وأسير حول محيط دائرة ، أبحث عن مخرج من هذا الكون ، وأنا أسير زاوية ، تركت فيها شيئا منّي ، أعود له في كل مرة فأزيد عليه ، حتى أشمّ رائحة الطين الممزوج بماء ، وأرتقب نبتة الحزن ، أجتهد في رسم لها صورة داخل خيالي ، لكني أعجز عن ذلك ، فلا أعلم كيف تكون أوراقها وفروعها وسيقانها ، واسأل نفسي هل تنبت لها زهرة ، وإن فعلت ماذا سيكون مصير النحلة إن استقرت عليها وارتوت من رحيقها ؟ .
نحلة مسكينة سوف تصطدم بحائط الزاوية لأنها مظلمة ، وتسقط على الأرض وتختلط بالطين لتعيش فيه ، هذا مصيرها لأنها اقتربت من زهرة شجرة ، نبتت على الأحزان ، هل يصل التفكير بنا في نحلة حزينة تطير مع مجموعتها داخل خلية ، وكيف نستطيع أن نميزها عن الأخريات ، أو أن نراقب ذئب تلبسه الحزن بين مجموعة ذئاب ، خرجت للبحث عن فريسة ، في مساء شتوي ، خرج معهم وهو يحمل أحزانه في جوفه ، وداخله يصارع الجوع من أجل البقاء ، لو أن لديه ما يقتات في الشتاء ربما انزوى في ركن .
قال جدي " كنت قد رأيت دمعة حمار ، يضربه ابن ساقي الحي ، وأحسب ذلك من ألم الضرب الذي يحصل عليه ، لكني أدركت مع الوقت أن تلك الدمعة ما هي إلا حزن على شيء قد لا أعلمه ، وقد أعلمه ، لكني لا أدرك ما يكون "
" وحزن تمدد في المدينة " * نال الجميع حتى الحيوانات أخذت نصيبها ، وقت قسمة ربما تكون ضيزا ، الحياة في أحيان كثيرة لا تنصفنا ، ونظرتنا إلى من هم أسوء منّا حالا ، لا يعني هذا ، أن لا وجود للإنصاف ، قد يكون وهو في حالته تلك قد نال ما هو أكثر مما يستحق ، وكانت الحياة معه منصف بشكل كبير وتميل الكفة إلى صالحة ، ونرتمي وسط العذابات ، كما هو الحال مع من هم أفضل منّا حالا ، النظرات مختلفة والحياة منصفة ، وغير ذلك ، إنما هو مكر مكرتموه في المدينة ، فتضاربت أقولي بين أنها منصفة وغير منصفة ، يرجع ذلك لخلق عذراً لنفس كسولة تبحث عن الرخص في كل شيء ، حتى سكنت في حجرات قلبي المظلمة ، خشية أن ترى عيوني النور ، وتظهر لها الأشياء على حقيقتها فتكون الصدمة ، وأني تدثرت الخوف من الغد ، خوفا من المجهول ، وأجدني واقع في الضلالة مخالفا قوله تعالى " ما فرطنا في الكتاب من شيء " وأن قدري هو أمامي لن يتخطاني في شيء ، ولا تتضارب أفكاري مع حديث " لا يرد القدر إلا الدعاء " أمزج بينهم وأظهر بعقيدة سليمة مؤمنة بأن الحياة منصفة لنا في كل شيء .
حتى أن الذئاب لا تأكل إلا الحملان التي ابتعدت عن الحظيرة ، ولعل ابتعادها ناتج عن حزن تلبسها وغرقت فيه ، لكني لم أصل إلي الشيء الذي يمكن أن يجعل رضيع حيوان في حالة حزن تغشاه ، قد نشاهده وهو تائه في المرعى بعد أن نال الذئب من والدته ، وأحيانا نشاهده واقفا على بقاياها ، يذهب ويعود مع ذلك الصوت الذي يخرجه ، مما يجعلنا نتعاطف معه وندخل في حالة الفقد التي هو فيها ، فنجد مأساتنا منطلقة من مشهد للطبيعة ، تقوم أسس الحياة البرية عليه ، برغم ذلك نحزن ، كما أن الموت بطرقه المتعددة هو جزء من حياتنا التي نعيشها ، وأمر لابد منه ونعرف أنه واقع لا محالة ، ثم نجد من يعترض بطرق قد لا تكون مباشرة أو تصدر منه عن عدم وعي بها ، فنعذره لحزن قد نال منه .
أعود إلى المجموعة التي أنتمي لها أصحاب لوحة " شرّ البرية " فلا أجد ناطق ، غير سيدة في عقدها الخامس ، تتحدث عن سيل العرم الذي أخذ منها أولادها وزوجها ، وأن لا حياة بعدهم ، وأن الزمن لم ينصفها والقدر قد اغتالها ، فاتخذت لها مكانا في مجموعتنا ، تندب حظها ، تارة هي في خصام مع الزمن ، ومرة أخرى مع الحياة ، فاختلطت علىّ الأمور من حيث الفرق بينهما ، وكنت اسألها ، آنا وأنت ولوحة شرّ البرية ، هل نعيش في الزمن أم في الحياة ؟ غير أنها لم تجاوبني بأكثر من أنهم ثلاثة صبيان أحدهم عاش في الزمن والآخر في الحياة وثالثهما جمع بين الحياة والزمن ، وعندما سألتها عن زوجها ، قالت عاش في برميل زبالة .
ما لذي يمكن أن تجده في زبالتك ، غير تلك الأشياء التي ترى انك لا تحتاجها وان لابد من التخلص منها لأنها أصبحت تشكل عائقا لك في المكان الذي تقبع ، قد تشكل قرفا أو تجدها أخذت مساحة من المكان أنت في حاجة لها أو أنها أصبحت بالية وتحتاج ان تجد البديل الأفضل ، ولو رجعت إلى زمن الشراء من أعوام سبقت ومقارنته بنفس اليوم والوقت من سنوات متأخرة وبحثت في الفرق بين ساعات ودقائق ذلك اليوم ، وقارنتها بنفس ساعات اليوم الذي أنت فيه ودقائقه ، مع مقارنة أخرى لنفس الغرض بين الوقتين ، أين تتوقع أن تجد الفروق ؟ ، قد تسأل نفسك لماذا تبلى الأشياء لماذا لا تبقى على حالها كأول الأمر ، لماذا تصبح بعد حين في مزابلنا ، لا نجد أي نظرة حزن عليها أو عاطفة داخل أيام بحلوها ومرها ، فهل البشر أيضا ممكن أن تكون خاتمتهم في مزبلة ، ينتهي بك المطاف أن ترمي صديق أو قريب بعد مرور الوقت عليه في برميل زبالة ؟ ، في نظري أن الكثير قد يوافقني أن بعض من عرفناهم يستحقون تلك المزابل ، وكما يسمّيها الكثير مزبلة التاريخ ، نحاول أن لا نعود لفتحها إلا لحاجة ماسة ، نبعثر قليلا مع علمنا بان قرفاً كبيراً قد يصيبنا من ذلك البحث .
قد نجد من يلهمنا بقولة " الحياة مزبلة والزمن ملعون " ، إن عشت مع الحياة نالت منك القاذورات وان رحلت مع الزمن اصابتك لعنة الدهر ، وعليه نجد أن الابن الثالث لتلك السيدة يعيش بين القاذورات وتلسعه لعانت الدهر ، بؤس غلام عاش بين أمرين ، لكنّا قد نجد من يقول أنصفتني الحياة وعشت زمني ، فهل سنجد من يرد عليه بـ .. " انتا بتكذب .. ياخلف " ؟