06-09-2005, 15:44 | #16 |
كــاتـب
|
رد : نازك الملائكة…الشاعرة والناقدة المبدعة
. . . نازك الملائكة.. ملامح من انطلاقة غير مسبوقة وانسحاب مبكر (1) د. عبد الرضا علي جريدة الشرق الاوسط * ترقد الشاعرة العراقية نازك الملائكة منذ اشهر عديدة في احد مستشفيات العاصمة المصرية التي تعيش فيها منذ عام 1992، وهي في شبه غيبوبة. وقبل ذلك اعتزلت هذه الرائدة الكبيرة الحياة الثقافية والاجتماعية منذ ما يقرب من عشر سنوات وسط تجاهل اعلامي وثقافي كعادتنا مع كبارنا الاحياء. لكن من حسن الحظ ان المجلس الاعلى للثقافة في مصر تنبه لذلك، فاصدر قبل أيام اعمالها الكاملة في خمسة مجلدات، كما كرسها اتحاد كتاب المغرب في ندوته حول الكتابة النسائية والذاكرة والمكان التي نظمت في مدينة اسفي المغربية قبل حوالي شهرين، هذه حلقات حول دور نازك الملائكة الريادي في الشعر العربي الحديث، ومواقفها النقدية اللاحقة من هذا الشعر، وتجربتها الشعرية ومكانتها في المشهد الثقافي العربي. في اسرة «الملائكة» البغدادية ولدت «نازك»، وكانت اول عقب لابويها. واسرة الملائكة اسرة شاعرة تقرض الشعر وتتبارى فيه، وتعنى بالادب، فرب الاسرة «صادق الملائكة» والد نازك كان ينظم الشعر، وله قصائد كثيرة، وارجوزة في اكثر من ثلاثة آلاف بيت.اما والدة نازك فهي «سليمة الملائكة» التي عرفت باسمها الادبي «أم نزار الملائكة» وكانت تنظم الشعر وتنشره في المجلات والصحف العراقية وقد صدر لها بعد وفاتها ديوان انشودة المجد. واخت نازك «احسان» واخوها «نزار» نظما الشعر ايضا. ولعل من المفيد ان نذكر هنا ان خالي نازك وهما: الدكتور «جميل الملائكة» وعبد الصاحب الملائكة» شاعران لهما آثار مطبوعة. في هذه الاسرة نشأت نازك وترعرعت، وكان لها ميل قوي عميق الى الشعر والادب، ظهرت بوادره منذ الطفولة، وقد سمعت ابويها وجدها يقولون عنها انها شاعرة قبل ان تفهم معنى هذه الكلمة، لانهم لاحظوا عليها التقفية، واذنا حساسة تميز النظم الشعري تمييزا مبكرا وبدأت بنظم الشعر العامي قبل ان تبلغ سبع سنوات، وكانت تحفظ اخوتها الاصغر منها اغاني بالعامية موزونة ومقفاة.. وفي سن العاشرة نظمت اول قصيدة فصيحة ارتكبت في قافيتها غلطة نحوية.. ثم اشتد حبها للشعر حين بلغت الثانية عشرة من العمر، واصبح ينمو، ويتزايد مع السنين. وكانت منذ صغرها تحب اللغة العربية والانجليزية والتاريخ، ودروس الموسيقى، وتجد لذة في دراسة العلوم، ولا سيما علم الفلك وقوانين الوراثة والكيمياء، لكنها في الوقت نفسه كانت تمقت الرياضيات مقتا شديدا. اما التفكير الفلسفي فقد تملكها منذ الصبا حتى غدا عادة من عاداتها تقول: «كنت دائما احب ان افلسف كل شيء، واغوص في جنباته واسبابه. وفي سنوات النضج اقبلت على قراءة الفلسفة». ويبدو ان احساسها الدائم بأنها تختلف عن سائر البنات اللواتي كن في سنها ايام الطفولة كان نوعا من التفكير الفلسفي الذي قادها الى الانعزال عنهن، لأننا وجدناها تقول: «فأنا كثيرة المطالعة، محبة للشعر والغناء، جادة.. قليلة الكلام، بينما هن لا يطالعن ولا يعبأن بالفن وليس لهن من الجد في الحياة الا اليسير». وعندما بلغت السادسة عشرة اصبحت اعد العزلة فصيلة الشاعر وحرية المفكر ونبذت المجتمع وانطويت على نفسي.. ولكنني بعد الثلاثين اصبحت اجد سعادة في الصداقة ومعرفة الناس وتذوق ما في شخصياتهم من جوانب جميلة. كان لابوي نازك تأثير عميق في بدء حياتها الفكرية، فقد بقي والدها استاذها في النحو حتى انهت دراستها الجامعية الاولى، اما والدتها فقد كان لها اثر واضح في حياتها الشعرية، لأنها كانت تعرض عليها قصائدها الاولى، فتوجه اليها النقد وتحاول ارشادها. وفي مرحلة الثانوية لاح عليها شغفها بالشعر الحديث، فتأثرت بشعر علي محمود طه وابراهيم ناجي ومحمود حسن اسماعيل وبدوي الجبل وامجد الطرابلسي وعمر ابي ريشة وبشارة الخوري. وقد بلغ نشاطها الفني اوجه في سنة 1942م، حينما كانت طالبة في السنة الثانية من دار المعلمين العالية، فانتظمت طالبة في فرع العود بمعهد الفنون الجميلة، ودخلت طالبة في فرع التمثيل، ولم تكتف بذلك، وانما انتمت الى صف لدراسة اللغة اللاتينية فوهبت نفسها لهذه الدراسات كلها في اندفاع لا مثيل له وكانت تحبها اشد الحب. اما تأثرها بالادب الانجليزي فقد بدأ وهي طالبة في دار المعلمين العالية حينما قرأت «شكسبير» وترجمت الى الشعر العربي احدى سونيتاته آنذاك، هي «الزمن والحب».. ثم اقبلت بعد ذلك على قراءة شعر «بايرون» و«شلي» ثم سافرت الى الولايات المتحدة لدراسة النقد الادبي في جامعة «برنستون» في نيوجرسي، فاتيحت لها الدراسة على ايدي نقاد الادب، مثل «ريتشرد بلاكمور» و«آلن داونر» و«آلن تيت» و«دونالد ستاوفر» و«ديلمور شورتز» وكلهم اساتذة لهم مؤلفات معروفة في النقد الادبي على ما تقول، ثم عادت الى العراق سنة 1951م، وبدأت تتجه الى كتابة النثر عامة، والنقد الادبي خاصة. وفي عام 1954م، هيأت لها مديرية البعثات العراقية دراسة الادب المقارن في الولايات المتحدة الاميركية في جامعة «وسكنسون» للحصول على الماجستير، فاستغرق اعداد الرسالة سنتين كتبت خلالهما مذكرات ادبية كثيرة على الكتب التي قرأتها والاشخاص الذين تعرفت اليهم وعاشت معهم في تلك الحقبة. ولاتساع حجم تلك الملاحظات نشير فقط الى الاسماء التي سجلت عنها ملاحظاتها النقدية، وهم: الفيلسوف الفرنسي «جان ماري غويو»، الفيلسوف الالماني «نيتشه»، الفيلسوف القديس «اوغسطين»، الكاتب الفرنسي «آندريه مارلو»، الاديب الفرنسي «البير كامو»، الفيلسوف الفرنسي «سارتر»، الكاتب المسرحي الايطالي «لويجي بيرانديلو»، الكاتب المسرحي الانجليزي «ج. ب. بريستلي»، الكاتب المسرحي «بوجين اونيل»، الكاتبان المسرحيان الاميركيان «آرثر ميلر»، و«تينسي وليامز»، والايطالي «البرتو مورافيا». وقد ذكرت نازك في احدى رسائلها اسماء الشعراء الانجليز الذين احبتهم، مما جعلنا نعد تلك الرسالة وثيقة مهمة ـ في الكشف عما كان في ثقافتها من اثر غربي ـ تبيح لنا الاستشهاد بجزء منها، وان كانت الرسالة شخصية، فهي تقول فيها: «واولهم عندي شكسبير في مسرحياته وسونيتاته وقصائده الطويلة، فقد احببته اشد الحب، وما زلت اجد النشوة في قراءة شعره، فهو شاعر الذروة يليه جون كيتس الذي درسته دراسة موسعة، وحفظت كثيرا من شعره، يليه فرانسس تومسن وروبرت بروك وت. س ايليوت وييتس وولسن توماس. ومن الشعراء الذين احببت شعرهم جون دون، فشعره يبدو لي رائع الاعماق بحيث اجد دائما لذة في قراءته. وهناك شعراء اقل شهرة اسعد بقراءة شعرهم مثل: ادغار الن بو وتشيسترتن واوسكار وايلد ولونغفلو، وشعراء آخرين قد اكون احببت لكل منهم قصيدة او قصيدتين اما كولرج ووردزورث وشلي وبايرون فقد قرأت لهم كثيرا واحببتهم احيانا ولم اتحمس لهم احيانا اخرى. وكثيرا ما راق لي شعر المجهولين الذين يختصرون اسمهم بكلمة Anon، كما احببت الشعر الانجليزي الشعبي، وحفظت كثيرا من الاغاني الاميركية الفولكلورية. فكل هذا الذي اقوله مختصر، فالشعر الانجليزي واسع وانا لا اكف عن القراءة فيه. اما ما نشرته من شعر «مترجم» فقد كانت بدايته سنة 1945م، حين ترجمت قصيدة «مرثية في مقبرة رينيه» للشاعر الانجليزي «توماس غري» ترجمة شعرية في ثلاثة وثلاثين مقطعا.. بلغ عدد ابياتها اثنين وثلاثين ومائة بيت اختارت لها بحر الخفيف ايقاعا، وكانت القصيدة مدورة في اغلب ابياتها. اما ثاني قصيدة ترجمتها فقد كانت قصيدة «البحر» للشاعر الانجليزي «جورج غوردن بايرون» وذلك في 1946/6/18م، وتقع الترجمة في احد عشر مقطعا، عدد ابياتها اربعة واربعون بيتا، اختارت لها بحر الخفيف الصحيح ايقاعا كذلك، غير ان هذه الترجمة لم تكن كاملة. وفي سنة 1952م، ترجمت قصيدتين: كانت الاولى «الشيخ ربيع» وهي «ترجمة تعرف عن الشاعر الفرنسي بروسبير بلانشمين» وتقع في سبعة مقاطع، عدد ابياتها ثلاثة وخمسون بيتا من الشعر الحر. اختارت لها مجزوء الرمل المذال ايقاعا. والثانية «النهر الغني» للشاعر الانجليزي «كرسمس همغريس» وتقع في ثلاثة مقاطع، عدد ابياتها احد عشر بيتا من شعر الشطرين، اختارت لها بحر المتقارب ايقاعا. وترجمت في سنة 1965م، قصيدتين للشاعر الانجليزي «روبرت بروك» وضمهما ديوانها «شجرة القمر» كانت الاولى بعنوان «ولكنها ستكون الاخيرة» ادارت ترجمتها لها في مقطعين، كان عدد ابياتها ستة عشر بيتا، اختارت لها المتقارب المقصور ايقاعا. وهي من الشعر الحر. والثانية كانت «اسفار» جعلت ترجمتها في اربعة مقاطع صغيرة، عدد ابياتها ثمانية متخذة من الرجز المشطور ايقاعا لها. لماذا ظلت تهمة الارتداد عن الشعر الحديث تلاحق نازك الملائكة (2-2) د. عبد الرضا علي الشرق الأوسط نشت امس حلقة عن بدايات الشاعرة نازك الملائكة وتأثرها بالشعر الانجليزي. وفي هذه الحلقة، يتناول الكاتب مواقفها النقدية اللاحقة وآراءها في الشعر الحديث، والسمات الشعرية التي ميزتها عن تجارب زملائها. ليس سهلا على شاعرة «مجددة» ان يحكم عليها بالارتداد عن الحركة التي كانت هي من روادها الاوائل، لأن ذلك يعني في محصلته النهائية ان ما جاءت به من ابداع شعري، وما كان قد تلاه من تنظير نقدي، لم يكن غير صرعة او فورة مرحلية بنيت على خطأ في التقدير، فقادت الى نتائج موهومة وليست الحال كذلك لاسباب كثيرة، منها: 1 ـ ان الشاعرة كانت مؤمنة بقضية التجديد التي دعت اليها، وظلت تؤكدها في كل المناسبات واللقاءات. ولعل في ردودها الصارمة على ما تناقله الكتاب، ووصفها لما رددوه بـ «الاشاعات والتقولات الاعتباطية التي هي أحد اسباب تخلفنا في العالم العربي» ما يفصح عن موقف ثابت من التجديد والدفاع عنه، على الرغم من كل ملابسات الاتهام واسبابه ودواعيه. 2 ـ ان خطأ نازك الكبير الذي قادها الى تغيير موقفها من الشعر الحر كان بسبب تعنت مزاجي لمخالفة المهاجمين ومناكدتهم. ولعل ما يؤكد ذلك تراجعها عنه، ومحاولة تفسيره فلسفيا بالقول «ان لفتات الذوق تتبدل تبدلا محتوما من عصر الى عصر» حين توقف المهاجمون. ولتوضيح ذلك نقول: ان الناقدة حينما درست عيوب الشعر الحديث لم تستشهد الا بشعر المتضامنين معها من الرواد، فاظهرت عيوبا في شعر: السياب والبياتي وبلند الحيدري وشاذل طاقة. ففسر ذلك على انه ارتداد عن الحركة وتنصل منها، فهوجمت هجوما عنيفا، وعدت محاولتها في تقعيد الشعر وضبطه على وفق آرائها التنظيرية محاولة رجعية للعودة الى قيود شعر الشطرين، وافراغ الحركة من محتواها الاصيل المتمثل بالخرق المفضي الى الابداع، فكان ان قادها هذا الهجوم الى التمسك المتعنت بآرائها، فلجأت الى الدعوة الى الاوزان الشطرية امعانا في مخالفة المهاجمين لها، واغاظتهم ليس غير. لأننا وجدناها تعود الى موقفها الاول في آخر دواوينها الشعرية «للصلاة والثورة» 1978م، محتضنة الشعر الحر، مدافعة عنه، داعية اليه بقولها: «انني منذ ثلاث سنوات كاملة ملتصقة اشد الالتصاق بالشعر الحر، غير راغبة في تخطيه والعودة الى شيء من الشطرين». 3 ـ اذا كانت عشر قصائد حرة في (شظايا ورماد) سنة 1949م من مجموع اثنتين وثلاثين قصيدة قد جعلت نازك من اوائل رواد حركة الشعر الحديث في العراق، وتسع قصائد حرة في (قراءة الموجة) 1957م، من مجموع اثنتين واربعين قصيدة قد اوضحت اسلوب نازك الشعري، وبحثها عن الجديد، فليس من المعقول ان تظل تهمة الارتداد عن الحركة، والتنصل منها تلاحقها حتى بعد مرحلة «شجرة القمر» 1968م، لأن موقف الشاعرة قد تغير، فقد اصدرت مجموعتين شعريتين لا تكاد قصائد الشطرين تذكرها فيهما اذا قيست بالقصائد الحرة. ففي «يغير الوانه البحرُ» 1978م، لا تجد قصيدة واحدة من شعر الشطرين، وفي «للصلاة والثورة» بيروت 1978م، لا تجد غير قصيدة يتيمة من شعر الشطرين هي «الخروج من المتاهة» اذا استثنينا قصيدة «تحية للطفلة دالية» لكونها قصيدة تجريبية تطرح اول مرة، فكيف ظلت تهمة الارتداد تلاحق نازك؟ اغلب الظن ان خصومها استطاعوا ان يزعزعوا الثقة بتجديدها، فانحسر النقد العلمي عنها، وبات مكتفيا بما قاله الخصوم، ولولا جهود عبد الله احمد المهنا واستجابة نخبة من اساتذة الجامعات، لما صحا النقد الجامعي من غفوته، وتنبه قبل فوات الاوان، وانصف الشاعرة، واعاد ثقة القراء بها. 4 ـ في شعرها الحر ظواهر فنية لا يمتلك القارئ الفاحص ازاءها، الا ان يشيد بجرأتها، ريادة واصالة، فقد كانت فيها من اسبق شعراء الحركة محاولة في الجدة والجودة، شكلا ومضمونا، ومن هذه الظواهر: أ ـ القصة الشعرية: ففي «الخيط المشدود في شجرة السرو» قدمت نازك حكاية حب مأساوية رسمت صورا لانفعالات محب كان قد ترك حبيبته من غير سبب، وعندما احس انه اضاعها ظن ان مجرد زيارتها كفيل بأن يذيب الثلج، ويمحو ما علق في قلبها من اسى، فكان ان اقدم على التوجه الى دارها بكل جرأة، هازئا انه سيقول لها كذبا إنه ندم على ما اقترفه من ذنب تجاهها. وما هي الا لحظات حتى يصر الباب، وتخرج اختها شاحبة الوجه، فيحدس من خلال نظراتها ان الفاجعة قد وقعت، فلا يستطيع ان ينطق الا بكلمة «هل» اذ يتوقف لسانه بعدها عن الحركة، لأن اختها تجيبه: «انها ماتت» اذ ذاك يصاب بشرود عميق، فتعتريه حالة من الهذيان الداخلي، ويبدو انه لم يسمع النبأ، فيلتفت حوله فتعلق عيناه بأول شيء تصادفانه، فيغرق في التفكير فيه، وهذا الشيء هو خيط مشدود في شجرة سرو تقوم عند الباب، فينشغل العقل المصدوم فيه، فيمد اليه يده، ويقوم بلفه على ابهامه من غير وعي، لان لفظة «ماتت» كانت بمثابة مطرقة جوفاء ظلت تتردد في اذنيه حتى جعلته يحسها افعوانا خانقا قد التف على رقبته، فيقف مذعورا من غير حراك: ثم ها انت هنا، دون حراك متعبا، توشك ان تنهار في ارض الممر طرفك الحائر مشدود هناك عند خيط شد في السروة، يطوي الف سر ذلك الخيط الغريب ذلك اللغز المريب انه كل بقايا حبك الذاوي الكئيب ان الخيط في القصيدة رمز للحب، لذلك كانت الشاعرة موفقة حين جعلت الحبيب يقطعه ويلفه على ابهامه، ويعود به من غير وعي منه، لأن قيامه بذلك تلميح الى تحمله مسؤولية ما حدث، فكان ان عاد به مقطوعا، وهو تلميح آخر الى الانفصام الذي لم يعد بعده يمتلك غير الذكرى التي حاول الاحتفاظ بها: ويراك الليل تمشي عائدا في يديك الخيط، والرعشة، والعرق المدوي «انها ماتت..» وتمضي شاردا عابثا بالخيط تطويه وتلوي حول ابهامك أخراه فلا شيء سواه، كل ما ابقى لك الحب العميق هو هذا الخيط واللفظ الصفيق لفظ «ماتت» وانطوى كل هُتاف ما عداه ان هذه القصة من نتاج سنة 1948م، فهي بذلك تعد من بواكير الشعر الذي اعتمد الاسلوب الدرامي، ان لم تكن الباكورة الاولى فيه، لذلك فهي تؤرخ لبداية هذه الظاهرة التي شاعت بعد حين. ب ـ الرمز: في شعر نازك كثير من التجارب، التي عالجت فيها حالات تتعلق بأعماق الذات الانسانية، ودواخلها على نحو رمزي. ويبدو ان استخدام الرمز كان ضرورة فنية الجأتها اليها تلك الحالات التي لا يمكن التعبير عنها مباشرة. لأن المباشرة تغدو عاملا محبطا لدى التعبير عن الذات الباطنية، ومناطق اللاوعي فيها. ففي قصيدة «الافعوان» عبرت الشاعرة عن الاحساس الخفي الذي يعتري النفس الانسانية احيانا بأن قوة مجهولة تطاردها مطاردة نفسية ملحة، حتى لا تجد مهربا للخلاص منها: اين امشي؟ مللت الدروب وسئمت المروج والعدو الخفي اللجوج لم يزل يقتفي خطواتي، فأين الهروب؟ ان هذا الخوف الذي يطارد الذات الانسانية «خوف مبالغ فيه، ومرضي من نوع المثيرات والاوضاع، وانواعه كثيرة» وهو يختلف من انسان لآخر، لذلك عبرت عنه الشاعرة ترميزا بـ «الافعوان» وحاولت الخلاص منه باللجوء الى (متاهة) سحيقة، واستعلمت طريقة الايحاء الذاتي بتطمين نفسها بأنه لن يلحق بها ما دامت قد دخلت هذه المتاهة: انه لن يجيء لن يجيء وان عبر المستحيل ابدا لن يجيء لن يراه فؤادي البريء غير انه سرعان ما لحق بها، وسدى كان ذلك التهرب بالايحاء: واسمع قهقهة حاقدة انه جاء.. يالضياع رجائي الكسير وهو تعبير رمزي يكشف عن تحكم هذه القوة الخفية في نفسية من يعتريه هذا الاحساس، وحتمية معاودتها، وان ظن انها فارقته. واذا ما علمنا ان تاريخ نظم القصيدة يعود الى سنة 1948م، ايضا، فاننا نستطيع ان نشير مطمئنين الى ان نازك كانت من اسبق شعراء جيلها ارتهانا بظاهرة التعبير الرمزي في حركة الحداثة الاولى. ج- توظيف أسلوب الحكاية الشعبية: في اعماق نازك صور من حكايات شعبية عاشتها في مرحلة الطفولة على نحو من الادهاش جعلها تستقر حية حتى بعد مرحلة النضج والاكتمال، حين برغت ثانية على شكل قصائد ذاتية تذكرية. غير ان احدى تلك الصور كانت حكاية شعبية اتخذت شكل الاغنية المتسلسلة طريقا للتأثير. ولما كانت هذه السلسلة الغنائية مثيرة لدهشة الطفل، فان الشاعرة حين ارادت ان تغني لطفلها لم تجد افضل من توظيف اسلوب هذه الحكاية القائم على التكرار والموسيقى اللفظية ـ الظاهرية. فكانت قصيدتها «اغنية لطفلي» قائمة على الاسلوب الشعبي عينه، تكرارا وموسيقية: براق الحلو اللثغة ينوي النوما والنوم وراء الربوة هيأ حلما والحلم له اجنحة ترقى النجما والنجم له شفة ويحب اللثما واللثم سيوقظ طفلي.. فقد بدأ كل شطر بالكلمة عينها التي جاءت في آخر الشطر السابق، فلفظة «النوم» التي ابتدأ بها الشطر الثاني كانت تكرارا للفظة عينها في نهاية الشطر الاول. ولفظة «الحلم» التي ابتدأ بها الشطر الثالث كانت تكرارا للفظة عينها في نهاية الشطر الثاني.. وهكذا. وهو توظيف لاسلوب الحكاية الشعبية المتسلسلة: يا خشيبة نودي نودي وديني على جدودي وجدودي بطارف عكا يعطوني ثوب وكعكة والكعكة وين اضمها؟ اضمها بصنديكي وصنديكي يريد مفتاح والمفتاح عند الحداد والحداد يريد فلوس والفلوس عند العروس والعروس بالحمام والحمام يريد قنديل... الخ وليس يهمنا هنا ما انتهت اليه القصيدة، ولا الحكاية الشعبية، فتلك امور لها مجالها الخاص، انما المهم هنا هو تذكير القارئ بتوظيف نازك لهذا الاسلوب الشعبي الذي تفردت به شكلا، والتقت فيه مع غيرها من الرواد مضمونا حين ادخلوا بعضا من الاغاني الشعبية، والحكايات في شعرهم. د ـ توظيف التراث العربي الإسلامي: على الرغم من ان قصيدة «الماء والبارود» اقرب الى الترهل منها الى التماسك لكثرة ما فيها من تكرار معنوي ممل اوصلتها الى طول غير مبرر، فإن محاولة توظيف التراث فيها تجعلنا نقف عندها وقفة فاحصة. فكرة هذه القصيدة تقوم على رواية سمعتها الشاعرة ايام حرب (اكتوبر) رمضان 1973م. وملخصها ان جماعة من الجنود المصريين كانوا صائمين وحان موعد الافطار، وقد نفد الماء عندهم، فراحوا يتضرعون الى الله، فجاءت طائرات صهيونية، وقصفت المعسكر، فتفجر الماء من الارض حيث كانت مواسير مياه الصهاينة مدفونة. غير ان الشاعرة وهي تعبر عن هذا الحدث الذي تلبسها لم يفتها ان تستلهم ما كان في الموروث العربي الاسلامي من حالات تخدم هذا الحدث لقربها منه في المحصلة النهائية، فكان ان وحدت بين عطشى اولئك الجنود، وعطشى الطفل ـ النبي اسماعيل (عليه السلام) حتى فجر الله تعالى له ماء زمزم. وصولا الى تحقيق غاية الري اخيرا بعد عذاب العطش: وانبجس الماء النمير حيث عسكروا ونام طفل الضوء اسماعيل: حول وجهه يضوع عنبر واشرق العالم بالضياء سبحان معطي الماء مفجر الندى من الصحراء ومنبت الزنبق، معطينا نهور الشعر والغناء ان هذا التوظيف الفني هو الذي انقذ القصيدة في ظننا من الاخبارية التي ازرت بها، فلولاه لظل الاداء سطحيا في تقديم الحدث، سرديا تقريريا في رسم الصورة. ولعل في هذه الظواهر الفنية ما يؤكد اقتدار نازك، ودورها في الجدة والجديد. . . |
06-09-2005, 15:49 | #17 |
كــاتـب
|
رد : نازك الملائكة…الشاعرة والناقدة المبدعة
. . ونحن إذ نقدم هذا الإصدار عن نازك الملائكة، فإن الذي نقصده هو تكريس هذه الظاهرة الإبداعية في نفوس أبناء العرب الذين نسعى لإيصال شيء من ثقافتنا إليهم، والتي تمثل نازك الملائكة ركنا من أركان حاضرها ومستقبلها، على الرغم من مسحة الحزن الغالبة على نصوصها الشعرية، ولكنه الحزن (الهادف) الذي يحرك فينا الشعور بما يعانيه الإنسان من آلام توحد البشر جميعا، فهل تنجح نازك الملائكة في توحيد مشاعر الإمة العربية، أم أن الزمن لم يعد زمن الشعر؟ سيف المري نستطيع أن نقرر بكثير من اليقين أن الشعر العربي كله، الذي يمتد في التاريخ قرابة ألفي عام، لم يلتفت باهتمام بالغ إلا إلى اثنتين من النساء المبدعات انفتح الزمن بينهما واتسع مسافة ثلاثة عشر قرنا، هما الخنساء في القرن السابع الميلادي، ونازك الملائكة في القرن العشرين. ناصر عراق أنا أعتبرها شاعرة كبيرة، بل أهم شاعرة عربية في بداياتها، دواوينها الأولى (الأول والثاني وحتى الثالث)، من أهم دواوين الشعر العربي، ولو استمرت في التطور وفي ارتياد آفاق جديدة لبلغت شأوا كبيرا للمرة الأولى في تاريخ الشعر العربي كامرأة، ولكن مع الأسف كما ذكرت أنها لم تواصل الرحلة. عبدالوهاب البياتي الشاعرة نازك الملائكة تأتي في مقدمة رواد حركة الشعر الحديث، ويرجع إليها الفضل الكبير في محاولة تأصيل المقومات الفنية لهذه الحركة، وخاصة في كتابها (قضايا الشعر المعاصر) حيث حاولت أن تضع القواعد والأسس التي دعت شعراء المدرسة الحديثة إلى الإلتزام بها. أحمد سويلم والعمل الذي قامت به نازك شبيه بما قام به الخليل بن احمد غير أن ما يحمد لنازك هو فطنتها، إذ إن الإيقاع وهو طقس جماعي حميم، ليس مجرد موضوع للمعرفة والإستقراء، وإنما هو مصدر للمعرفة من حيث هي موقف حيال العالم، يروم أن يستكشفه على أنحاء مختلفة وبطرائق متغايرة، هي أجناس المعرفة ومناهجها، فكان عملها على ما فيه من نقائص تأسيسيا، أتاح للقصيدة العربية أن تكون جزءا من نص شعري كوني واحد متعدد، من دون أن تنفي وحدته تعدده. منصف الوهايبي لم تأبه كثيرا بالدفاع عن شعرها، لم تجيش المريدين من حولها كما يفعل بعضهم، وإنما زهدت بكل وسائل الإعلام، ورفضت كل الإغراءات لجرها إلى الحوار والمقابلات الصحفية، ولم تشارك في أية ندوة أو مهرجان، وحين كانت تحضر بعض الجلسات النقدية لمهرجان المربد في بغداد خلال الثمانينات كانت تأتي وعلى وجهها ملامح الإعياء، تتخذ لنفسها مكانا قصيا، تتابع ما يدور بوعي أو نصف وعي، حتى مظاهر التكريم التي حظيت بها فيما بعد، جاءت متأخرة جدا للأسف الشديد.. حاولوا أن يسقطوا شعرها مما حول النص..بأمور تتعلق ببيئتها ونشأتها وجنسها ووضعها الإقتصادي..ولما لم يتحقق ذلك حاولوا إسقاطها من خلال مضامينها التي إتهموها بالفردية والرجعية والضيق.. تظل علامة مضيئة سواء في قصائدها التي كانت ميدانا خصيبا ترعرعت فيه عشرات المواهب أو في دراساتها النقدية التي استمرت فيها المناهج الداخلية المستندة إلى أفضل ما في تراثنا النقدي والبلاغي. ثابت الآلوسي لم تكتب القصيدة في حياء، أو شبه اعتذار، أو استجداء صامت لاعتراف ما، بل اخترقت ساحة الكتابة صاخبة، مقتحمة الحدود والأعراف الراسخة، بلا وجل، لتؤسس قصيدة عربية أخرى، تنتهك الذوق السائد والبنية المستقرة والقواعد الراسخة إلى حد البلى، وشغلت النقد العربي – ولا تزال – بقصيدتها (الكوليرا) وكتابها النقدي عن الشعر العربي المعاصر. نموذج شعري فريد لم ينل – حتى الآن – ما يستحقه من تأمل شعري ونقدي وإنساني، ولو كان هذا النموذج قد ظهر في الغرب لأقاموا له – كل يوم – احتفالية ولأصدروا عنه – آناء الليل وأطراف النهار – كتابا وفيلما ومسلسلا يشغلون به العالم ويفرضونه على الكون، لكنها ظهرت لدينا، لسوء حظها وحسن حظنا. رفعت سلام . . |
06-09-2005, 15:51 | #18 |
كــاتـب
|
رد : نازك الملائكة…الشاعرة والناقدة المبدعة
. . نازك الملائكة "أسطورة" الشعر العربي الحديث حاتم الصكر الحياة 2003/06/20 في أربعة أجزاء ضخمة، وأكثر من ألفين وثلاثمائة صفحة، صدرت عن "المجلس الأعلى للثقافة" في القاهرة الأعمال النثرية والشعرية للشاعرة العراقية الرائدة نازك الملائكة التي لا تزال منذ سنوات طويلة على سرير المرض، مواصلة علاجها في القاهرة التي احتضنت نتاجها منذ بداياتها آخر الأربعينات. وكانت الشاعرة خلال الحرب الأخيرة على العراق قلقة جداً إزاء وطنها وأهلها، وراحت تتابع ما يحصل على رغم الغيبوبة التي تحل بها حيناً تلو آخر. هنا مقالة عن ظاهرة نازك الملائكة: نازك الملائكة شاعرة وكاتبة عربية في المقام الأول، يدل إلى ذلك ان انفجارات شعرها الحر الأول وخروجها على العمود الخليلي، كانت عبر قصيدة "الكوليرا" التي كتبتها متأثرة بما جرى ذلك العام في مصر (1947). كما أنها ألفت كتابها النقدي الثاني عن شعر الشاعر المصري علي محمود طه، ولم تكن في مراحل شعرها المختلفة، وأطروحاتها النقدية بعيدة من الهم العربي المشترك، ان تقديم نازك الملائكة بإرثها الشعري ومنجزها كاملاً، الى قارئها، في هذه اللحظة الثقافية العربية الدقيقة، يحمل أكثر من معنى: - فهو يمثل تحية وعرفاناً لجهود هذه الشاعرة والناقدة التي كانت حياتها في الأدب (ولدت في بغداد عام 1923) كفاحاً وكدّاً مستمرين بجد واخلاص وجرأة ومسؤولية. - ويمثل تعاضداً وتضامناً مع مشروعها التجديدي ذاته، والذي بدأ باصطفاف ما يُعرف بجيل الرواد في النصف الثاني من الأربعينات، بتجديد دم القصيدة العربية الذي تخثر طويلاً. - ويمثل هذا الإصدار الضخم كذلك، تحية لثقافة شعب العراق الذي يعاني مثقفوه - شأن مواطنيه عموماً - ظروفاً قاسية سواء خلال الحصار أم بعد الحرب الأخيرة مما جعل النشر محدوداً. فالعقوبات الظالمة منذ اثني عشر عاماً، منعت حتى وصول أدوات الطباعة ولوازمها، فضلاً عن حرمان القارئ من تداول الكتاب واستيراده، وارتفاع أسعار المتوافر منه الى درجة لا يستطيع معها المواطن متابعة ما يحصل من أحداث وظواهر واصدارات. - والمشروع يضم إضافة الى ما سبق بعض إصدارات نازك الملائكة التي ظلت بعيدة من أيدي القراء بسبب نشرها المحدود مثل حديثها عن تجربتها الشعرية ونشأتها وتأثراتها الأولى في صفحات أسمتها (لمحات من سيرة حياتي وثقافتي) التي تكشف فيها عن جوانب مهمة في نشأتها الأسرية في أحضان أبٍ محبٍ للغة والأدب، وأم ذات محاولات شعرية تقليدية (جمعتها نازك في ديوان)، وشقيقات وأشقاء وأخوال يهتمون جميعاً بالشعر خصوصاً، والأدب عموماً، وكان لتشجيعهم أكبر الأثر في انطلاق تجربتها ومساهمتها الفذة في حركة التجديد الشعري العربي، وهي لا تزال في ريعان شبابها، حيث صدر ديوانها الأول عام 1947 بعنوان "عاشقة الليل" ليعكس تأثرها بالمذهب الرومانسي، ذلك ان الليل كما تقول هي في اللمحات "كان يرمز عندي الى الشعر، والخيال، والأحلام المبهمة، وجمال النجوم، وروعة القمر، والتماع دجلة تحت الأضواء، وكنت في الليل أعزف على عودي في الحديقة الخلفية للبيت بين الشجر الكثيف، حيث كنت أغني ساعات كل مساء". ان هذا المقطع يؤكد نزعتها الغنائية منذ صباها، وميلها الى العزلة التي كانت تريدها لنفسها، بعيداً من استهلاك حياتها بما هو يومي وعادي وعابر... تركته لسواها من الصديقات والزميلات... كونت نازك لنفسها ثقافة خاصة بمجهود شخصي، فتعلمت لغات عدة (الانكليزية والفرنسية واللاتينية) ودرست العزف على العود دراسة مسائية منظمة، وكذلك التمثيل، فضلاً عن تعمقها في علم العروض واللغة، وقراءة الشعر منذ صباها، ثم واصلت دراستها وحصولها على الدكتوراه... وعملت في التعليم الجامعي سنوات في العراق والكويت حتى مرضها. ظل الحزن سمة غالبة في شعر نازك، وهو ما رصده مقدم أعمالها الشاعر عبده بدوي الذي قال: "إن حياتها حولت الى شعر خالص... ثم ان فيها الحزن والعمق اللذين يعتبران جناحين للشعر... كانت تحس بالآتي، وتتعامل مع القادم فكأنها زرقاء اليمامة العصرية...". وهو يشير بذلك الى المرحلة الأخيرة من شعرها حيث ساد الحس الصوفي والزهدي أجواء شعرها، وراحت ترثي ما آلت اليه حالة الأمة العربية من خسائر وهزائم وانتكاسات، جعلتها هي ذاتها تحس الاحباط وتنكص عن مشروعها التجديدي الذي بدأته بحماسة وجرأة مثلتهما مقدمتها التاريخية لديوانها الثاني "شظايا ورماد" الصادر عام 1949، والذي أثار ضجة عنيفة وجدلاً كبيراً بسبب ما ضمنته من أفكار متمردة على الموروث الموسيقي للقصيدة العربية الخاضعة لسطوة العروض الخليلي ألف عام، وتصفها بأنها أصبحت مألوفة ونالها الصدأ لطول ما لامستها الأقلام والشفاه. تقول نازك في المقدمة: "لقد سارت الحياة، وتقلبت عليها الصور والألوان والأحاسيس، ومع ذلك، فما زال شعرنا صورة لقفا نبك، وبانت سعاد، الأوزان هي هي، والقوافي هي هي، وتكاد المعاني تكون هي هي". وعلى هدي ثورتها العروضية واللغوية بدأت مرحلة الشعر الحر التي تطورت الى مدى أوسع مما توقعته نازك نفسها، بجهود شعراء الوطن العربي من جيلها ومن جاء بعده... وطوّروا مقترحها وأوغلوا في مغامرة التحديث... ولكن نازك في حساب الإرث والحاصل الأدبي سيسجل لها أنها لم تكتفِ بالتجديد في الشكل الشعري، بل دافعت عنه في كتابها النقدي الذي يُعد من الكتب الأولى التي تقوم بالتنظير للشعر الحر، أعني "قضايا الشعر المعاصر" الذي صدر عام 1962، مؤكدة فيه صلة الشعر الحر بالتراث العربي، متحدثة عن بداياته، وما يمكن ان نعده تمهيداً له "كتجارب علي أحمد باكثير، وعرار، ولويس عوض، ومحمد فريد أبي حديد". كما أوغلت نازك في بسط الفرضية العروضية التي يقوم عليها الشعر الحر، وبينت بعض ما أسمته مزالق أو عيوب هذا الشكل وحذرت منها، وأياً كان مصير مقترح نازك ومحدوديته، وتراجعها عنه في سنوات الكتابة الأخيرة (قبل مرضها) فإنها ستظل ذات مكانة بارزة في الثقافة العربية عموماً وحركة الجديد في الشعر العربي خصوصاً، فضلاً عن دلالة كونها امرأة عربية تسهم بمسؤولية وجرأة في ثقافة وطنها في أعوام الأربعينات التي لم يكن المجتمع العربي فيها قد اكتملت رؤيته لدور المرأة في بناء المجتمع وامكان اسهامها في ثقافته وأدبه... فكان حضورها ترميزاً لنهضة المرأة العربية. ولكن نازك الملائكة بما امتلكت من عوامل الثقافة الذاتية والدراسة المنظمة فضلاً عن موهبتها، استطاعت أن تعطي لإسهام المرأة تجسيداً رائعاً، وتعبيراً ذا بعد رمزي مهم، دلالته الموجزة هي أن الشاعرة لم ترضَ بدور التابعة أو المقلدة، بل أسهمت عبر تجاربها الشعرية وكتابتها النقدية، في التنبيه على ضرورة التحول والتغيير والاندماج في قلب العصر ونبضه المتسارع، ويستحق ناشر أعمالها الشعرية والنثرية الكاملة (المجلس الأعلى للثقافة بمصر) الشكر والعرفان لمبادرته التي أشرنا الى أهمية ما تعنيه في بداية قراءتنا هذه... إذ صار إرث الملائكة بأكمله بين أيدي قراء الشعر الذين يحتفظون لنازك في ذاكرتهم بذلك الدور التأسيسي الرائد، وتحويل مجرى الشعر العربي باتجاه الحداثة والمعاصرة... من جهة نقدية أجد ان نقاد الشعر (والحداثة في وجه خاص) سيرون في مجموع شعرها ونثرها مناسبة لإعادة قراءة نازك: شعراً ومشروعاً... وسيرون بوضوح المنحنى الذي سار فيه خط شعرها بدءاً بمحاولاتها المتواضعة المتأثرة بالرومانسية وشعر المهجر، ثم تبلور رؤيتها التجديدية ولكن ضمن إطار ما أسمته هي "الشعر الحر"، ودفعت الى اعتراضات ومساجلات لا تزال قائمة حتى الآن، لا سيما ما اتصل منها بالمصطلح ذاته الذي وجد فيه المهتمون مخالفة لما يناظره في الشعر الغربي. فحرية شعرها الحر تتصل بالتفعيلات والقافية فقط، بينما يعني مصطلح "الشعر الحر" غربياً، التحرر التام من الوزن والتقفية لمصلحة الاسترسال النثري الذي كان تمهيداً لظهور قصيدة النثر، وتبلور نظرتها في الإيقاع واللغة الشعرية. وتمتد المساجلات الى مقدمتها الحادة لديوانها (شظايا ورماد) والتي دخلت في سجل بيانات الحداثة العربية كحجر ضخم في ماء الشعر المتجمد ومنبه ممّا أسمته نازك (الرقدة الطويلة التي جثمت على صدر الشعر طيلة القرون الماضية). واللافت في المقدمة ان اعتراض نازك على الشعرية العربية السائدة يمتد من العروض (وزناً وقافية) الى اللغة الشعرية ذاتها على رغم ان مناقشتها حصرت في "الألفاظ" فمثلت لها باختفاء مفردات شائعة في الشعر الموروث (كالبدر) واستبدالها بألفاظ أخرى (القمر). ويجيء أهم السجالات التي أثارتها المقدمة من جهة شعراء الحداثة أنفسهم إذ رأوا فيها - كما رأى النقاد - تحجيماً للثورة الشعرية وحصراً لها في "اللون البسيط من الخروج على القواعد المألوفة" كما قالت الشاعرة نفسها، مؤكدة ان مقترحها "ليس خروجاً على طريقة الخليل، وانما هو تعديل لها يتطلبه تطور المعاني والأساليب"، وأرى ان حدود الحرية التي أرادتها نازك لمقترحها هي بهذا التواضع والمحدودية، فلماذا ننتظر منها ما لا تطمح هي اليه؟ والكلام نفسه سيرد في حديثها عن القافية وما أسمته "الخسائر الفادحة التي أنزلتها القافية الموحدة بالشعر العربي طيلة العصور الماضية". ولكنها لم تطمح بسحب ايقاعية القافية وموسيقاها، واستبدالها بمحاور ايقاعية أخرى داخل النص كما سيقترح شعراء قصيدة النثر، لذا ظلت القافية عندها محوراً موسيقياً لازماً ولكن من دون نمطية أو رتابة. وباستجلاء ما أسمته لاحقاً "سايكولوجية القافية"... الأهم من ذلك في المقدمة هو حديثها عن الترميز والإيحاء والإبهام، ودعوتها لنبذ المباشرة، والاهتمام بالذات التي ترى أنها بحر زاخر بالصور والانفعالات والأحاسيس الغامضة والمغلفة بالأسرار... ومن هنا جاءت حماستها للرموز الاغريقية والأساطير التي لم تجد على يديها ما وجدته في شعر السياب (لاحقاً) من اندماج في أفق النص ذاته وليس الاكتفاء بإلصاقها خارجياً كما فعلت نازك. إن صدور أعمال نازك الكاملة مناسبة أيضاً لاستذكار جهدها النقدي الرائد في "قضايا الشعر المعاصر" على رغم اختلافنا معها في النظر الى الأفق المتوقع للحداثة والحكم على التجارب اللاحقة لها من دون تمحيص وتفهم لسياقاتها... ولعل إشاراتها المعمقة الى جذور نشأة الشعر الحر وظروفها ومناقشتها للفرضيات التي قام عليها ستظل من أكثر المستندات النظرية التي رافقت ظهور الشعر الحر في العراق والوطن العربي، أهمية وأحقها بالدراسة والمعاينة دائماً. . . تعليق: في حديث صغير مع صديق عزيز قلت: سيتفقون ويختلفون كثيرا حول نازك الملائكة ودورها في تطوير الشعر العربي شاعرة وناقدة، لكنها ستبقى دائما ضمن السلسلة العبقرية التي كان أحد أركانها قديما الخليل بن أحمد الفراهيدي وركنها الحديث بلا شك عبقرية عراقية أخرى اسمها: نازك الملائكة. . . |
06-09-2005, 15:58 | #19 |
كــاتـب
|
رد : نازك الملائكة…الشاعرة والناقدة المبدعة
. . نازك الملائكة من أنا الليلُ يسألُ مَن أنا أنا سرُّهُ القلقُ العميقُ الأسودُ أنا صمتُهُ المتمرِّدُ قنّعتُ كنهي بالسكونْ ولففتُ قلبي بالظنونْ وبقيتُ ساهمةً هنا أرنو وتسألني القرونْ أنا من أكون ؟ الريحُ تسألُ مَنْ أنا أنا روحُهَا الحيرانُ أنكرني الزمانْ أنا مثلها في لا مكان نبقى نسيرُ ولا انتهاءْ نبقى نمرُّ ولا بقاءْ فإذا بلغنا المُنْحَنَى خلناهُ خاتمةَ الشقاءْ فإذا فضاءْ ! والدهرُ يسألُ مَنْ أنا أنا مثله جبارةٌ أطوي عُصورْ وأعودُ أمنحُها النشورْ أنا أخلقُ الماضيْ البعيدْ من فتنةِ الأملِ الرغيدْ وأعودُ أدفنُهُ أنا لأصوغَ لي أمساً جديدْ غَدُهُ جليد والذاتُ تسألُ مَنْ أنا أنا مثلها حيرَى أحدّقُ في الظلام لا شيءَ يمنحُني السلامْ أبقى أسائلُ والجوابْ سيظَلّ يحجُبُه سرابْ وأظلّ أحسبُهُ دَنَا فإذا وصلتُ إليه ذابْ وخبا وغابْ . . قصيدة حب للرسول الكريم في صيغة معاصرة البحر اغماء لحن حبٍٍٍِ، البحر زرقة البحر طفل مسترسل الشعر ، للضحى فوق مقلتيه انكسارةٌ رفة ، وشهقة البحر تلهو عرائس الماء في تراميه الف جوقة يلبسن غيماً ، ينشرن اجنحة من ضبابُ عرائس البحر ضيعتني زورق شوق هيمان في فضة العُبابُ وصيرتني فراشة الرغو والسحاب وملء روحي وجه حبيبي تسبيحة عذبة ونجمة وبرد نسمة وجه حبيبي اكبر من لانهاية البحر، من مداه يسد اقطاره الزرق ، يطوي طيورهُ، موجهُ، رؤاهُ وجه حبيبي: زنابق ، اكؤس ، مياهُ وجه حبيبي واللا نهايات في عالم واحدُ ليس يشطر ولا يجزأ يابحر قل: أين ينتهي ذلك الوجه؟ قل اين انت تبدأ؟ وجهُ بحارٌ اضيع فيها، وينطفيء ضوء كل مرفأ ومقلتاهُ ، اين ترى تنتهي ؟ وفي أي نقطة تبدأ البراءة؟ وما حدود الألوانِ فيها؟ كيف يمتص منها البحر ليلهُ؟ كيف يستعير الضحى ضيائه وجه حبيبي، يا بركة الصحو والوضاءةِ وجه حبيبي كسرهُ الموج واقتناهُ أشعة، زورقاً، شراعاً يحضن أفقاً ملوناً، يرتدي سماءه. وكان قلبي، وكان قلبي يسبح عبر استغراقةٍ خصبة المرايا في موج غيبوبة وتيه ، في حلم حب مضيعٍ في مروج هدبِ يحوب لج البحار بحثاً ، عن لؤلؤ ناصعٍ فيه ما في قلب حبيبي من ألق السر، من عطورٍ، ومن خفايا من نغم دافيء الهبوبِ يتمتم النبع فيه وتنساب رياح الجنوب كنت على البحر أترع البحر من منايا وجاءني طائر جميل وحط قربي وامتص قلبي صب على لهفتي السكينة ورش هدبي براءة، رقة، ليونة وقلتُ ياطائري، يا زبرجد من اين اقبلت، أي نجم اعطاك لينه؟ يا نكهة البرتقال ، يا عطر ياسمينة وما أسمك الحلو؟ قال : أحمد وأمتلأ الجو من أريج الاسراء طعم القرآنِ وامتد فوق اغمائة البحر ضوءُ ، من أسم أحمد وقلت في لهفة أتوسلُ: أحمد ، أحمد أحمد كانت عيناه بحراً تسقي باب الوجود كانت تنشر عطراً تنبت في الصخر مرج شذر وأقحوانِ تسيل نهراً من زعفرانِ أحمد قد كان يانعاً تنتمي الدوالي الى جبينه وفي عيونه نكهة أرضي، وطعم نهري، وعطر طينهُ أحمد قد لاذ بي، ونمى أهداب لحني في ولهٍ راعش الحنانِ أحمد من ضوئه سقاني أحمد كان البخور والشمع في ومضاني أحمد كان أنبلاج فجرٍ ، وكان صوفية الأغاني وأحمد في مروج تسبيحةٍ رماني كلا جناحيه بعثراني كلا جناحيه لملماني من أبد الضوء جاء أحمد من غابة العطر والعصافير هل أحمد عبر عطورِ القرآن ، عبر الترتيل والصومِ ، شع أحمد من عمق اعماق ذكراتي من سنواتي المختبآت في شجر السرو ، من عطور الخشخاش واللوز وجهُ أحمد يا طائر الفجر يا جناح الزنابق البيض ، ياحياتي يابعدي الرابع الموسد في اغنياتي ياطلعة المشمش المورد في زمني ، عبر نهر عمري، في كلماتي أحمد ، أحمد ! يا لونُ، يا عمق ، يا وجنة السر ، يا أنفلاتي من جسدي من سلاسلي من ثلوج ذاتي من كل أقفال أمنياتي ياطائر الصمتِ ، والغموض الجميل ، يا شمعدان معبد أنت المدى والصعودُ، أنت الجمال والخصب ، أنت أحمد يا رمضاني ، يا سكرة الوجد في صلاتي يا وردتي ، يا حصاد عمري ، يا كل ماضٍ ، يا كلُ آتٍ وياجناحي نحو سمائي ونحو ربي وياقطرة الله في شفاه الوجود ، ويا ظلتي ، وعشبي أنقر تسابيح صوفية من علا شفتيا بعثر قرائين بيضاً وخضراً في صحن قلبي يا سُبُحاتي يا صوم أغنيتي ، و يا سنبلاً طرياً اني انا حرقة المتصوف في عسق الفجر أحمد ، أحمد هل انت الا طائر ربي يا ثلج صيفي ، يا لين سُحبي يا ضوء وجهٍ يطلع لي من كل جهاتي شرقي وغربي ومن شمالي ، ومن جنوبي ، من كل تعريشة ودرب يطلع أحمد ، يطلع أحمد ، وجهاً نبياً ملفعاً بالغناء والأنجم الشمالية المحيا أحمد ياصافياً مثل أمطار آذار يا ثلج أول الموسم الرحيمِ مثل رفيف الأهداب في أعين النجومِ أحمد يا شاطيء الابدية عبر سماءٍ روحية الصمت ، ليلكية تشرب صوفية الغيوم يا لاعباً بالضباب ، يا عطش المجدلية أحمدُ ، أحمدُ أنا ، وأنت ، الطبيعة ، البحر .. جو معبد شمعة نذرٍ في خاطر المرتقي تتوقد والله في حلمنا المورد شباك عسجد شباك عجسد أحمد يا توق مقلتين مضيئتين خاشعتين بالسر والعمق مملوءتين ياوتراً من قيثارة الله ، يا وردُ ، يا بحة المؤذن يا أثراً للسجود ندى جبين مؤمن أنا وأحمد أنا وأحمد سكون ليلٍ ورجعُ تسبيحة تتنهد يحبناالبحرُ والهديرُ تعشقنا موجةٌ وتغازل اغنيتنا عرائس الماء والصخورُ نحن قرابين في المُصلى ، نحن نذورٌ أنا وأحمد نشوة قديسة تتعبد سطور حب ممحوة خلفها سطورُ نهر مديدٌ، ولا عبورُ أنا وأحمد يحبنا الليلُ يسهرُ يشتاق أعيننا وبأسمائُنا يتهجد يلثم أقدامنا البحرُ يحملنا في اتجاهِ بعد اتجاهِ أواه لو أنت احببتنا انت يا ألهي! ومقلتا أحمدٍ صلاةٌ مغفرةٌ موعدٌ بسملة جناحه يجرف الخوف ، والحزن من حياتي يُزيحُ أستاري المُسدلة يفتح في عمري كل بوابةٍ مقفلة يمنحني للوجود شعراً ، أذان فجرٍ ، غيبوبةً ، ركعةً، سُنبلة أحمد زنبقة الله تقطر في تنهداتي أحمد فوق شواطيء وعيي: فكرٌ ، محبة والبحر من دون مقلتيه موتٌ وغُربة من دونه العمر جرف ليالٍ مثل الخطايا ، سوداء ، رطبة أحمد توبة أحمد توبة وطارت الطير في الصباح طارت جميعاً تلعبُ في الغيم والرياح وتنقر الضوء فوق بحرْ بلا انتهاء ولم يطر أحمد ، ظل قربي وظللتنا سحبٌ مبقعةٌ بالضياء كنا نغني للحب ، للبحر ، للسماء كنا شراعين شاردين مضيعين في غاب لحن تكسرت في غنائنا الشمس والمرافي واللانهاية تكسرت كل ضحكاتنا ، كل أشواقنا في مدى حكاية والمد جاء يلثم اقدامنا، يتكسرُ أحمد ، أحمد نحن، انا، انت والاعالي، ليلٌ وصمتٌ والله في روحنا غناء . . سوسنة اسمها القدس اذا نحن مُتنا وحاسبنا اللهُ: قال: ألم أعطكم موطنا؟ أما كنت رقرقتُ فيه المياه مرايا؟ وحليته بالكواكب؟ زينتُهُ بالصبايا؟ وعرشت فيه العناقيد ، بعثرت فيه الثمر؟ ولونت حتى الحجر؟ اما كنتُ انهضت فيه الذُرى والجبال؟ فرشت الظلال؟ وغلفتُ وديانهُ بالشجر؟ أما كنتُ فجرتُ فيه الينابيع، كللتُهُ سوسنا؟ سكبتُ التآلق والاخضرار على المنحنى؟ جعلتُ الثرى عابقاً ليناً؟ أما كنت ضوأت بالأنجم المُنحدر؟ وفي ظلماتٍ لياليكمو ، أما قد زرعتُ القمر؟ فماذا صنعتم به؟ بالروابي؟ بذاك الجنى ؟ بما فيه من سكرٍ وسنا ؟ سيسألنا اللهُ يوماً ، فماذا نقولُ؟ نعم ! قد مُنحنا الذُرى السواقي ومجد التلول وهُدب النجوم ، وشعر الحقول ولكننا لم نصُنها ولم ندفع الريح والموت عنها فباتت كزنبقةٍ في هدير السيول نعم ! ودفعنا بأقمارها للأفول وقامر جُهالنا بالضحى بالربى بالسهول بسوسنةٍ اسمها القدسُ ، نامت على ساقية الى جانب الرابية وتُمطر فيها السماءُ خُشُوعاً ، تُصلي الفصول ويركعُ سُنبلها، تتهجدُ فيها الحقول وعبر مساجدها العنبرية أسرى الرسول فماذا صنعنا بوردتنا الناصعة؟ الهي تعلم أنت ، ونعلمُ، ماذا صنعنا بوردتنا ، قد نزعنا، نزهنا وُريقاتها ودلقنا شذاها الخجول وهبنا صباها لأذرع عول لأشداع عقربةٍ جائعة فكيف اليها الوصول؟ ونخشى غداّ ان يجيء الضبابُ وليلُ الضباب يطول ويفصل ما بين أقدامنا والوصول وقد تتمطى عصور الضباب بنا ، وتزول كواكبُنا ثم تأتي السيول وتجرف شتلاتنا، وتطول ظلالُ الكآبةْ تغرقُ في غمرات الذُهُول وتأتي الرياح وتمسحُ جنتنا الضائعة وتخبو امانينا ، وأمتداداتها الشاسعة ويطوي الذبول سنابلنا رب عفوك ، ماذا نقول وفي عتباتك كيف تُرى سيكون المثول؟ فأنت منحت الجناح الطليق ، ونحن اخترعنا القيود وهبت لنا القُدس ، ونحنُ دفعنا بها لليهود.. . . الزائر الذي لم يجيء ..ومر المساء ، وكاد يغيب جبينُ القمر وكدنا نشيع ساعاتِ امسيةٍ ثانية ونشهد كيف تسير السعادةُ للهاوية ولم تأتِ انت.. وضعت مع الامنياتِ الاخر وأبقيت كرسيك الخاويا يُشاغل مجلسنا الذاويا ويبقى يضج ويسأل عن زائرٍ لم يجيء وما كنت أعلم انك ان غبت خلف السنين تخلف ظلك في كل لفظٍ وفي كل معنى وفي كل زاوية من رؤاي وفي كل منحنى وما كنت اعلمُ انك أقوى من الحاضرين وان مئاتٍ من الزائرين يضيعون في لحظةٍ من حنين يمُدُ ويجزُرُ شوقاً الى زائرٍ لم يجيء ولو كنت جئت ... وكنا جلسنا مع الآخرين ودار الحديث دوائر وانشعب الاصدقاء أما كنت تصبح كالحاضرين وكان المساء يمر ونحن نقلب اعيننا حائرين ونسأل حتى فراغ الكراسي عن الغائبين وراء الاماسي ونصرخ ان لنا بينهم زائراً لم يجيء ولو جئت يوماً – وما زلت أوثر الا تجيء لجف عبيرُ الفراغ الملون في ذكرياتي وقُص جناح التخيل واكتابت اغنياتي وامسكت في راحتي حطام خيالي البريء وادركت اني احبك حلما وما دمت قد جئت لحماً وعظماً ساحلم بالزائر المستحيل الذي لم يجيء . . |
عدد المتواجدون في هذا الموضوع » 1 , عدد الأعضاء » 0 , عدد الزوار » 1 | |
|
|
|