من خير الكلام


آخر 10 مشاركات
ياهيني كحل بين الارماش (الكاتـب : نمرالعتيبي - - الوقت: 15:36 - التاريخ: 21-06-2024)           »          هلا بالجميع (الكاتـب : دغيفل - - الوقت: 20:59 - التاريخ: 14-11-2023)           »          اصعب سؤال (الكاتـب : علي التركي - - الوقت: 14:50 - التاريخ: 26-06-2020)           »          وريثة الغيم (الكاتـب : علي التركي - - الوقت: 10:37 - التاريخ: 21-03-2020)           »          الظِل.......! (الكاتـب : كريم العفيدلي - - الوقت: 23:00 - التاريخ: 26-01-2020)           »          آفـآ وآلله يـآمـجـرآك (الكاتـب : ناعم العنزي - - الوقت: 10:12 - التاريخ: 23-01-2020)           »          ثـقـوب (الكاتـب : عائشة الثبيتي - - الوقت: 10:25 - التاريخ: 17-12-2019)           »          ~{عجباً لك تدللني}~ (الكاتـب : شيخه المرضي - - الوقت: 23:39 - التاريخ: 26-11-2019)           »          تاهت خطاويه (الكاتـب : حمود الصهيبي - - الوقت: 08:55 - التاريخ: 14-11-2019)           »          خزامك وشيحك (الكاتـب : حمود الصهيبي - - الوقت: 22:43 - التاريخ: 08-11-2019)


 
العودة   شعبيات > > ذاكرة العرب
تحديث هذه الصفحة الأمل الأخير
 
إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 04-10-2008, 14:30   #1
خزام الخزام
شــاعر / كاتب
 

الأمل الأخير




كانت ليلة من ليال الصيف الجميلة , السماء مليئة بالنجوم , والقمر ما زال مختبئا بمكانه , لم يشأ أن يشتت بريقها ولمعانها , ويخجلها بنوره , فآثر البقاء بعيدا , ليستكين بمخبئه , وليهبها وهجها اللافت , لكن بدراً قد أطلّ في تلك الليلة , لم يكن القمر , لكنه بجماله وكماله , أبهى منه وأرقّ .
* * * *
يا الله ,, كانت ليلة قاسية عليك حبيبتي , لم أكن أتصور أن ألم الولادة سيكون بهذه القوة الموجعة ؛
كنت تتألمين بشدة , كانت صرخاتك تقطع قلبي , وكادت أن تجتثه من مكانه , ولولا أن الطبيبة خفـّفت على هول الصدمة ,
لوليت فرارا , وتركتك وحيدة .
علت وجهها ابتسامة مشرقة , رغم التعب والإجهاد الذي عانته , ونظرت إليه قائلة : وهل كنت لتتركني قبل أن تُشرف على ولادتي ؟! رد عليها : الطبيبة والممرضات هنّ من يقمن بذلك حبيبتي وليس أنا !! .
ضحكت وأطرقت برأسها : هكذا أنت دائما ,, تتعامل مع الحياة ببساطة متناهية .
وبعد برهة صمت ؛ ماذا ستسمي المولودة الجديدة , صمت قليلا ,, ثم قال : سارة ,
ما رأيك بذلك ؟ نعم ,,إسم جميل , على بركة الله يا أبا سارة , قالتها بتغنّج ٍ ودلال ٍ قد اعتاد عليه و أحبه , فاشتاق إليه .
نظر إليها نظرةً عبّرت عمّا بداخله من عشق ٍ وشوق ٍ وهُيام , وهَمَسَ : على بركة الله يا أم سارة, وخرج .
سارة ,, تلك الوردة المتفتحة بين خمائل الزهور , طفلة تحمل من مواصفات ومقاييس الجمال ما تحمله ,
لم تكن كالأطفال الآخرين , فقد بدأ نبوغ جمالها من أشهرها الأولى , وُلدت جميلة , لتبقى جميلة ,
أزلية الحسن لا يغيّرها الزمن ولا تُبدّلها السنين .
كبرت تلك الفتاة , فخطفت الألباب , وسرقت العقول , وتملكت مفاتيح الصدور , وتربعت على مكامن الروح ,
عقلٌ رزين , ومنطقٌ آسر , وجسدٌ ضامرٌ كعود الموز , ونَظـَارَة ُ مقتبل العمر , فهي الجمال بعينه ؛
لم لا , وأمها الجميلة , ملكة اللطف , وسيدة الرّقة , وأميرة التفاؤل , وأبوها الذي اجتمع كل من يعرفنه
على أنه صديق الجميع , فعلى مر الزمان , لم يُغضب أحدا قط , ولم يسئ الظنّ بأحد ما ؛ لا لشئ ,
إلا أنه كان يتعامل مع الجميع بكل احترام وتقدير , فقد جمع بين اللطافة والثقافة , وبين الكرم وحسن التعامل .
تهافت الخاطبون على والدها , ولكنه كان يشترط موافقتها , فهي ابنته الوحيدة , ولم يرزقه الله بغيرها ,
وكانت كثيرا ما تسأل نفسها : ألا يوجد غيري في هذا البلد , أين هؤلاء عن مها , وحصة و سلمى ,
و و هنّ أكبر مني عمرا , وأنا لا زلت أصغرهنّ بسنوات , وقد كان ردها على والدها أن سبب رفضها
للزواج الآن , أنها لا تفكر بترك والديها وحيديْن , وأنها لا زالت بحاجة إلى وقت كافٍ لتحضير نفسها للدخول في معترك الحياة .

مرت الشهور والسنين , وتغير موقف سارةمن الزواج , فقد وفـّق الله أغلب الفتيات بالزواج ,
لكن أولئك الشباب , لم يُقدموا على الزواج بـِهنّ , إلا بعد رفضها لهم , وكأنهنّ أصبحن البدائل لها , بل كُنّ كذلك .
كانت ترى وقع ذلك في أعينهنّ اللاتي يرمقنها شزرا كلما زارتهنّ في بيوتهن , واتضح لها بأنهنّ لازلن يغرن
منها , ولا يحبذن مجيئها لهنّ خوفا من أن يراها أزواجهنّ , فدبّت الغيرة في قلوبهن , وأصبحن يرينها العدو الأوحد .
كان ذلك موقفهنّ جميعا منها ؛ وهذا ما ساعدها على تغيير فكرتها في البقاء في بيت والدها ,
وجعلها تفكر جديا بالزواج للخروج من هذا العالم الممل الرتيب .
عجبا ,, فالحسن قـُبحٌ في مجتمع يحسد الأعمى على السمع , والأصم على النظر , والكسيح على العقل .
تزوجت سارة , وتركت ذلك العالم الغريب , وبدأت أحداث الحياة تتسارع , وبوادر التغيّر تتضح , فالحياة الزوجية مليئة بالتغيرات , منها الحسَن , ومنها ما هوعكس ذلك .
كانت أجمل لياليها على الإطلاق , ليلة الزفاف , بالرغم مما يعتري الفتاة من هلع واقتضاب و رهبة ,
إلا أنها ليلة العمر .كانت بواكير الزواج أشبه بالحلم الجميل , رومانسية فوق العادة , أمنيات تتحقق ,
وابتسامات دائمة , كان سعود يعيش تلك الأيام بسعادة تغمر قلبه , فها هو ينال مراده بربة الحسن والجمال .
سارة !! بل الرّوح والفؤاد , بل كل شئ . دارت رحى السنين , وتمرد الحظّ وعربد , فكان ما كان .
لم يشأ أن يغادر ذلك المكان القابع في غربي السوق القديم , استهوته تلك الأزقة الضيقة المتعرجة , والحوانيت
المتناثرة بين جنباته الملتوية , وأصوات الباعة وهم يصيحون بأصواتهم لعرض بضائعهم
واستقطاب المارة ولفت انتباههم , كان واقفا بجانب عمود كبير من الحجر و متّكأً بيده عليه ,
وهو يتابع الناس بغدوّهم ورواحهم .
هزّ رأسه طربا واستمتاعا بما يراه , وعلت محيّاه ابتسامة عريضة فارقته كثيرا , لطالما استجدى الظروف
لرسمها على وجهه , ولكن ( تأتي الرياح ) .
مكان جميل وكل ما فيه يذكّره بماضيه الجميل . التفت يمنة ويسرة يبحث عن مكان يستريح فيه ,
لينعم بهذه الأوقات الفريدة الآسرة , وليرتوي من هذه الأجواء الأصيلة الحالمة , فإذا بـ ( قهوة السعادة ) .
مقهى به ثلاث طاولات خشبية وبضع كراسٍ قديمة , ونادل واحد , يقوم بكل أعمال المحل .
تقدّم عبده مُرحّبا بذلك الزائر الغريب – الذي لا يوحي مظهره بأنه من روادقهوته – وقابله ببشاشتة المعهودة
وابتسامته التي لا تكاد تفارق محياه , فمنذ أن قدم إلى هذه البلاد قبل 35 سنة , وهو يعمل
بهذا المقهى دون كلل أو ملل , الكل يعرفه , فهو المعلم عبده قبل أن يصبح ( العم ) عبده ,
دائم الإبتسامة , أبيض القلب , نقي السريرة , قوي الشكيمة , وإضافة إلى ذلك فهو صبور إلى
أقصى درجات الصبر , وكتوم , يحفظ السر ولا يبوح به لأحد قط , كائنا من كان , أسحم البشرة ,
قصير القامة , نحيل الجسم , طلا الشيب عارضيه فزاده وقارا , وقد ودّع الخمسين , و مازال يتمتع
بكامل قوته ونشاطه .
جلس صاحبنا على إحدى الطاولات الخشبية , وبدوره قام عبده بمسح الطاولة بقطعة قماش رطبة
كان يضعها على كتفه , مكررا كلماته الترحيبية به . لم يكن يتوقع أن هذا الزائر سيُمضي وقته هنا ,
فقد كان يعتقد بأنه سيسأله عن أحد أو عن محل ما , حتى أنه لم يتجرأ بأن يقدم له قائمة الطلبات الشفهية .
وقف أمامه بوجوم , يفرك كفا بكف , مكررا نفس الكلمات الترحيبية , مرحبا , أهلا وسهلا كيف الحال ,,
ياهلا بك , إلخ .
لم يُمهله الضيف كثيرا , حتى أفصح له عن طلبه : هل لديك قائمة ؟؟ أقصد ألا يوجد لدى المحل قائمة طلبات ؟؟
• والله يا أخ ....
- يقاطعه... الضيف . إسمي سعود .
*تشرفنا ,, وأنا عبده , ويكمل ,, يا أخ سعود عندنا شاي عادي وبالحليب وبالنعناع , ( برّاد أو كأس )
وساندويتش جبنة بالمربى , وبيض مسلوق بالطماطم والشطة فقط .
ولو انك أمعنت النظر جيدا ؛ لرأيتها معلقة على ذلك الجدار , بتسعيرتها المتواضعة .
- عفوا يا أخ عبده ,, لم أنتبه لذلك . عموما .. أرغب في ( برّاد ) شاي منعنع , سكر زيادة .
• حاضر وممنون , فقط أمهلني خمس دقائق حتى يغلي الماء جيدا . - طيب , طيب . وانصرف .
بدأ سعود يُقلب ناظريه في المكان , وطريقة بنائه القديمة , وتماسكه رغم السنين , وأشد ما أثار عاطفته
هو منظر أوراق شاي الليبتون الموسومة على سقف ذلك المكان , كما أثار استغرابه
و فضوله خلو المكان من الزبائن , إلا من أولئك المارين من خارج المقهى وهم يلقون
التحية على العم عبده , حينها رسخت كلمة العم عبده في مخيلته , وأدرك أنها لن تغادرها أبدا .
• الشاي المنعنع يا عم سعود
- هاه ,, نعم نعم شكرا يا عم عبده .
أمسك عبده البراد , وسكب الشاي من الإبريق في الكأس بطريقة بديعة خلابة , أظهرت زبد الشاي في أعلى الكأس
, وقدمه له .
ارتشف سعود الشاي , وعبده مازال واقفا ممسكا بالإبريق , يرمقه مع كل رشفة , ويرى أن خلف هذا الإنسان
الكثير من الطلاسم والهموم , بالرغم من أن مظهره يوحي بغير ذلك .
أما سعود فقد كان في عالم آخر , وبعيدا عن مسرح الأحداث , كان شارد الذهن , شاخص البصر
, متسمر الأطراف , مضطرب الأنفاس .
إنتبه لـ عبده مع آخر رشفة شاي : - - أما زلت هنا ؟؟ تفضل بالجلوس ,, لا تقف , تفضل .
جلس عبده , وأطبق الصمت من جديد , إلى أن قطعه سعود بسؤال : - لا أرى أحدا يرتاد هذا المقهى !! أين الزبائن ؟؟ • الزبائن !! - ورفع إصبعه السبابة مشيرا إلى السماء - الزبائن يأتي بها الرزاق الكريم .
- ونعم بالله . - وبعد سكوت لم يدم طويلا قطعة عبده .
• أعلم بأنك تتساءل : لماذا تركت بلدك و أولادك وأهلك ؟؟ ألم يكن في سبيل طلب الرزق ؟؟
- نعم كنت سأقول ذلك , والرزق حق مشروع للجميع , لكني أراك غير آبهٍ في تحقيق ما أتيت من أجله .
• إيه يا عم سعود !! ويصمت قليلا ويطلق تلك الآهة القوية , قبل أن يهمّ بالكلام ,,
إسمع يا ولدي : - قدمت إلى هذه البلاد الطيبة وأنا ابن السابعة عشر , وعملت في هذا المقهى طيلة سنيي تواجدي ,
كنت أسهر الليالي مع الطلاب أيام الإمتحانات – يذهب ويُحضر له ألبوم الصور- ويعرضها عليه ,
أتعرف هذا ؟؟ وهذا ؟؟ وذاك ؟؟ , هذا وزير , وذاك سفير , وهذه صورة مدير الجامعة , .
كلهم ذاكروا بهذا المقهى أو القهوة - إن جاز التعبير- , وهم يعرفوني جيدا ,وغيرهم كثير ,,,
المهندس والدكتور والطيار والمدرس .
يهزّ رأسه ثم يُكمل : نعم يا عم سعود ,, أتيت لطلب الرزق , وجمع المال , لكني وجدت ما هو أثمن من المال
, وجدت حب الناس , تعايشت مع أبناء هذا البلد وأحببتهم , وأحبوني , وهذا من فضل الله , تزوجت
, وأنجبت وذهبت وأتيت من جديد , ولم أُغيّرهذا المحل , وما دام أنه يغطي مصاريفه , ومصاريف الإقامة
ومصاريف مأكلي ومشربي ,,, فلن أبرح هذا المكان حتى أموت ,, ففيه بدأت حياتي وبه ستنتهي .
ولكني ,, أعيش غريبا في كل أحوالي , فلا البلد بلدي ,, ولا الأهل أهلي .
مللت من إجراءات نقل الكفالة , وأعيتني مصاريف تجديد الإقامة , تعبت من وجودي بلا حقوق ,
ألم أشارك بالبناء ؟؟ ألم أقدم عمري تضحية لهذا البلد المعطاء ؟؟
ألم أدعو له في كل صلاة بالخير والبركة !! أتعلم يا ولدي !!
- ماذا يا عم عبده ؟؟
• كلما استمعت لأغنية طلال مداح ( وطني الحبيب ) أبكي بحرقة .
- الله ,, أغنية جميلة ,, لكن لماذا البكاء ؟؟ ذهب مسرعا إلى غرفة صغيرة ,, وما لبث أن عاد
حاملا معه جهاز راديو قديم , كان مغطى بقطعة قماش خضراء جميلة , فتح الزر وحرك المؤشر؛
أرأيت لا يزال يعمل مثل صاحبه - يقصد نفسه – وعلت محياه ابتسامة عريضة, أزالت الهم عن تجاعيد
وجهه البرئ ولو لفترة قصيرة .
أحضرت هذا المذياع معي من بلدي فقد اهدتنيه والدتي – رحمة الله عليها – وعندما وصلت إلى
هذه الأرض المباركة , كان أول ما استمعت إليه هي تلك الأغنية ,,,
ما أجمل كلامها , خصوصا في البيتين : -
في ظل أرضك قد ترعرع أحمد ... ومشـــــى منيبا داعيا مولاه
يدعو إلى الدين الحنيف بهد يـه ... زال الظلام وعُززت دعواه
أرأيت يا ولدي ,, أملك الكثير من الحقوق هنا ,, أملك الكثير ,, وأنا غير قادر على العيش هناك
, ولست بقادر على ترك هذا المكان .
ونزلت دمعة وحيدة على خدّه ,, لكنها كانت تحمل كل همومه وآلامه ومآسيه .
وبعد برهة صمت , قطعها سعود :
- نعم ,, نعم , لك الحق في المطالبة بكامل حقوقك , فأنت صاحب حق .
والمفروض يا عم عبده ....
يقاطعه عبده ....
• لا أريد المفروض كلاما تتشدق به أنت وغيرك ممن سبقوك , المفروض أن يكون المفروض
حقيقة أراها نصب عيني , تكفل لمن أعطى وبذل بأن يُعطى ويُكافأ , لا كلاما تلوكه الألسن .
- بدون شك !! • هذا ما تعانيه نفسي من نفسي يا ولدي . - و هل تعاني نفسك من غير نفسك ؟؟
• نعم ,, وبكل تأكيد , أبنائي كلهم ولدوا وترعرعوا فوق أرض هذا البلد المعطاء , ولازالوا غرباء
لا يرغبون بالعيش خارج حدود هذا الوطن فهم أبناء هذا البلد , وليسوا أبناءه بنفس الوقت .
هذا أشد ما يضايقني , ويقض مضجعي , ويؤرقني , فالآن هم يعيشون معي وفي كنفي , وأنا كفيل بهم بعد الله ,,
لكن بعد وفاتي , من سيضمن لهم حياة مستقرة و آمنة ؟؟ وهل سيجدون الوفاء لتضحياتي , وعمري
الذي انقضى في خدمة هذا البلد ؟؟
- بعد عمر طويل , أسأل الله أن يمد في عمرك , ويُسبل عليك الصحة والعافية , إطمئن يا عم عبده
, فإن الله لا يضيع حق كل صاحب حق .
• ونعم بالله ,, ونعم بالله .
بدأ سعود بالتفكير في أمر ذلك الكهل , وأخذ يخوض في تحليل مشكلته وكيفية إيجاد الحلول لها , وبدأت التساؤلات
تتناوب على عقلة , وبينما هو كذلك , إذا به يخرج من هذه الدوامة ,, ويتغير مجرى تفكيره إلى ما كان عليه
من هم وغم , وما أصبح عليه من نكد الدنيا .
في هذه الأثناء إنتبه له عبده , وعندما رآه منهمكا بالتفكير , آثر أن يتركه ليختلي بنفسه , فالخلوة
بلسم الهم , ومرهم الجراح . عادت به الذاكرة إلى الوراء عقدا من الزمان , سرح في خياله
النائم بين أكداس المشاغل والهموم , وبدأ يفتّش بين أروقته عن أشلاء روح ٍ مزّقتها الغربة ,
وخفقات قلبِ أجهده الفراق , وبقايا جسدٍ جعّدته السنين .
غربة الروح , ومرتع الجروح , وتجذر الهم , واضمحلال الصبر .
زفرة عميقة خرجت من صدره المكتظّ بالمشاعر والأحاسيس المتناقضة .
آهة جافة , خرجت لتجرح اللهاة والشفاه , ودمعة حائرة وجِلة , لم تساعدها الظروف على الخروج
من سجن المحاجر المقيت , استرسل في تفكيره , ولم يقطعه إلا وصول عبده .
• تركتك لتنعم بوحدتك , و تؤانس نفسك ؛ لا أن تعذبها هكذا .
- فعلا كنت بحاجة ماسة إلى وقت صفاء ذهني , وهدوء كامل لأتوارى عن الناس , و أفضفض
لنفسي عن نفسي .
• بماذا تفكر , وعن ماذا تفتش ؟؟
- عن الكثير ياعم عبده , عن الكثير .
• لحظة , سأحضر براد عدني ( يعدل المزاج ) ومن ثم سنُكمل حديثنا .
- إذا لا مانع من ساندويتش جبنة بالمربى ,, إن أمكن .
• إن أمكن !! ممكن وألف ممكن و ( بدل الواحدة عشر يا عم سعود )
- واحدة تكفي ,, ويُتمتم بينه وبين نفسه , وأين النفس التي تشتهي الزاد ؟؟ لم يكن هناك سابق معرفة بينهما ,
ولم يلتقيا قبل ذلك أبدا , لكن الأرواح تأتلف كما أنها تختلف , ومن المؤكد أن روحيهما التقتا واندمجتا
, فأتلفتا بالرغم من فارق السن الكبير بينهما ؛ لكنه القدر .
حدّث - سعود – نفسه , هل من المعقول أن أفضي بأموري الشخصية وأسراري ,
وأتحدث بخصوصياتي لرجل لم يمض ِ على معرفتي به سوى ساعات قليلة ؟؟ هل هذا جنون ,
أم أن هناك ما يدعو لذلك !!
و,, هَبْ أنه استمع إ ليّ وشاركني الحوار , هل سأجد عنده الحلول !! هل سينجلي همي !! هل ؟؟ هل ؟؟ ,
خضم هائل من التساؤلات عصفت به في ظلام التكهنات المريبة , و نور التوقعات الآنيّة المتفائلة .
لم يُزل تلك الهواجس والشكوك عن باله , إلا وجود عبده بجانبه قائلا :
- إسمع يا ولدي , أدرك أنك شاب تمتلك من العقل و حسن التصرف ,ما يجعل الشك يدور
في تفكيرك حول ما ستتحدث به الآن , لشخصٍ لا تربطك به صلة ولا علاقة لا من قريب أو بعيد ,
وإن كان ذلك , فاعلم بأنه تفكير العاقل , و تدبير الفطِن , وتصرف الحكيم ؛
ومن الآن ,, فأنت غير مجبر على قول ما تكتمه نفسك , ولا مُكره على التلفظ به ,
والأمر لديّ سِيّان ,, في إفضائك به أو إخفائك له . فلست بالذي يبحث عن خصوصيات الغير
, أو الخوض في حياتهم الخاصة , لكني أحببتك في الله , وأحسست بأنني أعرفك منذ سنوات ,
هكذا حدثتني عنك نفسي , حتى وإن آثرت الصمت , فلن يغيّر ذلك من الأمر شئ , فقط إفعل ما تُمليه
عليك قناعاتك , ويفرضه عليك عقلك .
نظر إليه سعود نظرة اندهاش وتعجب !! , كيف علِم هذا الكهل بما يدور في مخيلتي , وبما تحدثني فيه نفسي ,
وبما أخفيته عنه !!
قام سعود واحتضن عبده بقوة ,,, وبكى الإثنان . يا عم عبده ,, أنا قصتي كلها مآسٍ وهموم , أحداث مؤلمة ,
ومواقف محزنة , وبصيص أمل لم ينمو مع الأيام , ولم يكبُر , فأصبح كالصخر , جمادا لا حياة فيه .
لست بمتشائمٍ ولا بأفـّاق , إنما ما كان كان , وعليه يشهد المكان والزمان .
كنت طفلا كسائر الأطفال , ألهو معهم وألعب , نتشاجر ولا نلبث أن نتصالح مجددا , و أحب هذا ,
وأعادي ذاك , كعادة الأطفال الذين هم بهذا العمر .
لكني كنت مفضلا لدى الشبان والرجال أكثر منهم , لا لشئ إلا أنني كنت جريئا بإجاباتي
عن أسئلتهم عن فلانه وفلانه , و من هي أجملهن , ومن هي أطولهن شعرا, وقد كنت أجيب بكل براءة
وعفوية , ولم أكن أدرك معنى أسئلتهم تلك , وما زاد تفضيلهم لي , هي تلك الأسئلة التي ألقيها عليهم ,
ما معنى الجماع ؟ , وما هو الحيض ؟ , وقد كان أغلبهم يبتعدون عن الإجابة ,
وكنت أنعتهم بالغباء و الجهل فما كان منهم إلا أن يقهقوا ويضحكوا حتى يستلقوا على ظهورهم .
كبرنا , وتغيرت أحوالنا , وأنهينا المرحلة الثانوية , توظفت في أحد الدوائر الحكومية , وسارت أموري
على خير ما يرام , ولم أكن أبحث في ذلك الوقت إلا عن الزواج , وبعد فترة قصيرة ,
وجَدَتْ أمي ضالتي , وعلى قول والدتي ( زينة البنات ) لم يكن لي أي شرط سوى أن توافق عليها والدتي ,
وهاهي قد وافقت .
لم أسأل عنها , ولا عن أهلها , ولم أتفوه بكلمة حول هذا الموضوع أبدا , فقد كنت أرغب بالزواج وكفى .
سارة يا بني , فتاة ناضجة ’ وعاقلة , وجميلة , فحافظ عليها , فهي وحيدة أمها و أبيها , وأنت وحيدي ,
بارك الله لكما و عليكما .
تزوجنا , ودامت الأفراح , وعمّت السعادة , وغَرَسَ الحب بذوره في قلبينا , واستوطن العشق في حياتنا ,
فكانت من أجمل سنين العمر , إلا أن الله لم يكتب لنا الأبناء , ولم يكن هذا أكبر اهتماماتنا , فقد كنا نهيم
بالهوى والغرام . سنتان أو أقل , مضت و كأنها أيام بل ساعات قليلة .
كنّا بطبيعة الحال نتردد بين الفينة والأخرى أنا وهي على بيتهم لتزور والديها , وتعرفت من زياراتي
المتعددة هذه على صالح , وخالد , وسليمان , وشباب آخرين , ومن عادات العربي الشهم ,
أن يلتزم بآداب الكرم , فعرضت عليهم أن يزوروني في بيتي , فوافقوا في الحال , وحددنا موعد العشاء .
أذكر تلك الليلة جيدا , فقد أتوا وأعينهم تتطاير شرارا , بُهروا بجمال مسكني , وروعة أثاثه وطريقة تصميمه .
تفننوا بكلمات الإطراء على مأدبة العشاء , وتنوع الطعام ولذّته , حتى أنهم لم ينسوا أن يتمعنوا بأدق التفاصيل
, كالملاعق والشوك , والصحون , كل شئ , لم يتركوا صغيرة أو كبيرة إلا وتفحصوها بأعينهم الحارقة .
انقضت تلك الليلة , وكأن حملا ثقيلا يجثم على صدري , لم يشأ أن يتزحزح , وبعد لحظات أتت سارة
وهي تحمل إناءً فيه ماء , وقالت لي اغتسل وامسح به وجهك , فعلتُ ذلك , وانزاحت تلك الغمة عن صدري
, فهمت ذلك واستشعرت الخطر . على الجانب الآخر كانت النساء بانتظار أزواجهن محملاتٍ بمئات
الأسئلة عما كان وصار , وماذا , وكيف , وهلمّ جرا , فلاحقتنا العيون , وغيظ النفوس . إتضحت لي الصورة
, وفهمت معنى ما خبّئته لي الأيام لاحقا , إنقلبت حياتي , ودبّ الخلاف فيما بيننا ,
على أتفه الأسباب , كنّا في أسوء حالاتنا , وازداد الأمر سوءا عندما تركتها في بيت أهلها شهرا كاملا
, ولم تنفع توسلات أمها لرجوعها إليّ بعد أن عدت إليها , لكنها رفضت رفضا قاطعا العودة معي .
مضى شهرا آخر , وعاودت الكرّة , و وافقت على شرط , أن يسود التفاهم والودّ حياتنا من جديد .
ولم يمض سوى اسبوع واحد , إلا وعدنا للخلاف من جديد . لم أكن أقصد الخطأ , ولم أكن أريد غير رضاها ,
ولكني أخلّيت بشرطي لها , كما أنها لم تعد كما كانت , لم تعُد تحتمل مني أي تصرف خاطئ ,
كانت في السابق ترشدني للطريق الصحيح , وتمنحني المزيد من التحمّل والتوجيه , وتبدلت الأفراح إلى أتراح ,
و توسعت الفجوة بيننا , والغريب في الأمر أن هذه المشاكل لا تكون إلا حينما نكون مع بعضنا البعض ,
أما إذا كنت خارج المنزل , فإنني أشتاق إليها , وهي كذلك . وكان الطلاق .
يصرخ عبده .. لا حول ولا قوة إلا بالله , ويكررها مرارا ويديه على وجهه , إن أبغض الحلال عند الله الطلاق .
إنفصلنا , تلبية ً لحكم القدر , وانتهت أجمل قصة عشق , لكنها نهاية ليست سعيدة إلا لؤلئك الحاسدين
الحاقدين الذين أفنوا أعمارهم بالخوض في حياة الآخرين , وتركوا حياتهم جانبا , ولم يهنأ لهم بال
إلا التفريق بين المرء وزوجه .
كان الطلاق ولم يكن غيره الحل , فقد كنت أنا عذابها , وشقائها , بعد أن كنت سعادتها وبسمتها .
مُرضتُ , ولم أتعافى إلى هذا اليوم , وهي كذلك , الحب في دمنا يسري , والمودة لا تزال شابّة ولم يفنيها الزمن .
بالأمس جاءني والدها , وشرح لي حالها , ذبلت تلك الزهرة , ونحل جسمها , وعانت من داء الهوى ,
وحمدا لله أنه عندما رآني لم يعرفني من سوء حالي , وقال لي : يا ولدي أما آن وقت الرجوع للحياة ,
فأنتما الآن في عداد الأموات , فهل إلى حياة من سبيل !! وتنهال الدموع على وجنتي سعود ,
ويبكي لبكائه عبده الذي قام ليواسيه , ويمسح دموعه :
ياولدي لمَ هذا العذاب !! سعادتك من سعادتها , فلم التفرق والبعاد !!, ولم العذاب والسهاد !!
يا عم عبده , ما يمنعني إلا الخوف . ومم الخوف ,,
وعلى ماذا تخاف , ألستما بأسوء حالٍ الآن ,, صدقني ياولدي , فلن يأتي أسوء من هذا الحال بينكما أبدا ,,
لا تدع لإبليس مرتعا يخوض به بينكما بعد الآن .
الخوف من عدم التوفيق , فقد عدت إليها مرة ثانية وحدث نفس الحدث , وهذه الثالثة , أتفهم ذلك ؟؟ الثالثة !!
فالآن هناك بصيص أمل وهو الرجوع , ولو لم نتفق من جديد , ووقع المحذور ,فلن أجد أملا أحيا من أجله ,,
فدعني أعيش على أملي الأخير .

التوقيع:
كانت ,,, وياما كان

كان الماء ,,, فكانت الهواء
كان الحبّ ,,, فكانت القلب
كان المكان ,,, فكانت الزمان

فبدونهِ لا يوجد المكان ,,,, وبدونها يتوقّف الزمان
خزام الخزام غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس
قديم 11-10-2008, 09:01   #2
عبدالواحد اليحيائي
كــاتـب
 
الصورة الرمزية الخاصة بـ عبدالواحد اليحيائي
 

رد : الأمل الأخير

.
.
بالتوفيق.
.

عبدالواحد اليحيائي غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس
إضافة رد


عدد المتواجدون في هذا الموضوع » 1 , عدد الأعضاء » 0 , عدد الزوار » 1
 

قوانين المشاركة
غير مصرّح لك بنشر موضوع جديد
غير مصرّح لك بنشر ردود
غير مصرّح لك برفع مرفقات
غير مصرّح لك بتعديل مشاركاتك

وسوم vB : مسموح
[IMG] كود الـ مسموح
كود الـ HTML مسموح

الإنتقال السريع