في ركن صفحة
"مضت أشهر على تواجدي فيها, هي الواحدة بعد المئة, هذه سنيني التي أعيشها بالطريقة التي أرغب, والطريقة التي أحصي بها أيامي".
كتبت لها هذا الصباح كلمة واحدة "انتظرتك".
برغم أن ليس هناك موعدًا تم الاتفاق عليه، كل ما في الأمر أنه قرارٌ داخليٌ قد أكون اتخذته من تلقاء نفسي بدون أن أشاورها في ذلك، لم تكن ملزمةً بالحضور، ولكني كنت ملزمًا بالانتظار.
"انحني لها أيتها الريح "
كبرت في المهد, ومن كنيسة المهد أرتقب حضور الأب ليعمد أبنائي في ليلة شتوية, تضرب عواصفها الباردة كل اللحوم الباردة, لتبقى تلك التي في دفئها حاضرة، نبث فيها آخر أنفاسنا التي نحملها من رحلة بحث على جبال الجليد المتحركة نحو المحيطات.
معاً من الماضي القديم، دخلت على استحياء وثقة بكل شيء حولها، كنت جزءًا من ذلك المكان، تنظر لعيوني وهي تقول: "وكأني أعرفك من زمان، هذا أول حديثنا وهذا أول لقاء". تعلمت النطق بالكلمات على لسانها وكنت من قبل أرددها في المهد واستمع لترتيل مقتطفات من الكتاب المقدس.
تسمعني أنشودة البلابل، هكذا أخبرتني باسمها "بلابل", برغم أني لم أعرف ما هي تلك البلابل!
قالت عنها أنها أرواح تطير في السماء, تشبه العصافير.
سألتها: "هل تقف في السماء وتعيش فيها ؟ أم هي تنزل للأرض تقتات أرزاقها ؟"
لم تجاوبني, تركتني أعيش في حيرتي, بعد أن وضعتني في أول سطر بأحد صفحاتها المليئة بعضها بكتابات مرتبة, وأخرى صفحات خالية لا تحمل سوى البياض. كنت في أعلى صفحة بيضاء بعد نقطة من بداية السطر. وقفت بقلمها بعدي لتحرك الكلمات، أتبعها بآثار سائل ازرق وجدت أن أقدامي قد تلونت بلونه، لا أعلم الآن في أي سطر أنا ! كل ما أعرفه أني سرت على رسمها للأحرف.
وعلى الصخرة كانت تجلس تقابل الفجر، تمسك بأحد أصابعي تمرره على نقش محفور فوق سطح الصخرة، تخبرني أننا حفرناه معا ذات غروب. لحظات من الماضي دوناها على صخور تصارع الأزمان، هي صخرتنا التي تحمل روائحنا وتحمل أنفسنا الساخنة في ليالي الشتاء.
"شعرت اليوم بحنانك يغمرني، أحسست بأنوثتك التي فجرت رجولتي نحوك، أدركت أني أحبك بكل حالاتك، يروق لي غضبك، وأتلذذ بابتساماتك, بمزحك, بضحكاتك, يذهلني الكبرياء الطاغي على شخصيتك، أضحك من غشك حينما تراقبيني وأنا "أحكي" ، منحتني مساحات واسعة للـ "حكي" وللصمت وللتأمل".
أجهل المعرفة, كل شيء حولي يحتاج إلى تفسير. أحمل لها الكثير من الأسئلة حينما يقع بصري على نقطة وأركز فيها، أرهقتها مرارًا وأنا أكرر: "هل أنا طفلك المدلل ؟ لماذا تجف أوراق الشجر ولماذا تسقط وتندثر بين رمال الأرض ؟ لماذا الأغصان تتكسر ولا نجدها تحمل الخضار من جديد ؟"
دائماً تقول: "إنه انتهاء الحياة يا عزيزي", ولكنها لم تشرح لي كيف تنتهي الحياة !
تبعد نظراتها عني كلما سألتها: "هل أيضًا هناك نهاية لحياتي ؟".
لم تجاوبني قط, وكأنها لا تريد أن تعترف بأني أحمل الموت, وقد يأتي في أي وقت ولحظة, وربما بين يديها, لعلها لا تريد أن تتخيل الفكرة.
أخبرتها أني تخطيت رجب بعد المئة، وقد لا تكون لي مئة أخرى.
انتظرتها في نفس المكان "حول الصخرة "، لم أصعد على سطحها لأني لا أعرف الطريق. كانت دائمًا تمسك بيدي وترشدني على متعرجات الطريق، أغمض عيني أثناء الصعود، وعلى جنبي خصرها أضع يدي تسير ببطء حتى نصل. الأشياء من تحتي تبدو صغيرة, وأنا معها في قمة الصخرة.
اليوم لم تأتِ, وأظنها لن تأتي, ربما أرهقتها بالأمس ساعاتنا الطويلة. لم نرغب بتوديع بعض، أجبرنا الليل بعدما رمى بسواده على الأشياء لتبدو وكأنها أشباح من حولنا. تركت مخاوفي على تلك الصخرة, وها أنا اليوم في بدايات صباحي أحملها من جديد.